عادي

صندوق النقد الدولي . . “مقرض الملاذ الأخير”

04:45 صباحا
قراءة 7 دقائق
إرنست وولف- عرض وتلخيص: مرتضى حسن
نشأ صندوق النقد الدولي في الأساس كإحدى المؤسسات التي نجمت عن الحرب العالمية الثانية التي لم تكن وضعت أوزارها تماماً بعد وإن كانت قد أوشكت على النهاية حين جرى عقد مؤتمر "بريتون وودز" في الولايات المتحدة في يوليو/تموز من العام 1944 الذي نجمت عنه الاتفاقية التي أنشئ بموجبها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي . وأصبح الصندوق بعدها أقوى المنظمات المالية الدولية، وشرع في ابتزاز البلدان ونهب القارات، حارماً أجيالاً بأكملها من آمالها في المستقبل الأفضل على مدى سبعة عقود تقريباً مضت منذ إنشائه حتى الآن .
ويقول الكاتب إرنست وولف في مقدّمة كتابه "نهب العالم . . تاريخ وسياسة صندوق النقد الدولي"، الذي نشرته دار "تيكتوم فيرلاغ ماربورغ" الألمانية عام ،2014 إنه وعلى الرغم من أن هذه الحقائق حول الصندوق وآثاره المدمّرة كانت معروفة عالمياً وقد احتج مئات الآلاف على آثار التدابير التي فرضها خلال العقود الماضية مخاطرين بحياتهم في كثير من الأحيان، إلا أن الصندوق تمسك باستراتيجيته بعناد .

"هذا الكتاب مهدى إلى الناس في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية الذين لا يستطيعون قراءته نظراً لأن سياسات صندوق النقد الدولي حرمتهم من الحق في التعليم" .
المؤلف

يصوّر الكاتب إرنست وولف في هذا الكتاب الجانب المظلم من المنظمة العالمية، ويبين كيف تهدد السياسات المالية العالمية التي تفرضها وتتبناها القوى المهيمنة على أدوات النظام المالي الدولي وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي حياة الناس وسبل كسب عيشهم في مختلف أنحاء العالم .
ويصف العواقب المأساوية المترتبة على سياسات الصندوق بالنسبة إلى المجتمع العالمي بأسره، حتى أوان الأزمة المالية الأخيرة التي ضربت منطقة اليورو والقارة الأوروبية نفسها .
ويقوم الصحفي في هذا العرض المقنع للغاية بتحديد الآثار الدراماتيكية المترتبة على أفعال صندوق النقد الدولي المتمثلة في الإقراض بفوائد فاحشة وشروط مجحفة، وفرضه تطبيق التدابير التقشفية لليبرالية الجديدة .
ويتركز الهدف الرئيسي لصندوق النقد الدولي على الصعيد الرسمي، في استقرار النظام المالي العالمي، ومساعدة البلدان التي تواجه صعوبات في أوقات الأزمات، أما في الواقع فإن عملياته تعيد للذاكرة حروب الجيوش المتصارعة .
ولم تؤثر أية منظمة مالية أخرى خلال الخمسين عاماً الماضية، في حياة الأغلبية من سكان العالم بمثل ذلك العمق الذي أثر به صندوق النقد الدولي، ومنذ استهلال عهده عقب الحرب العالمية الثانية، وسع الصندوق نطاق نفوذه إلى أقصى أركان الكرة الأرضية النائية، حيث تشمل عضويته في الوقت الحالي 188 بلداً في خمس قارات .
وفي حين فاقمت تلك التدابير من معدلات الفقر وزادت معدلات الجوع وانتشار الأمراض وغذت الصراعات المسلحة في مختلف أجزاء العالم من جهة، فإن سياسات صندوق النقد الدولي ساعدت من الجهة الأخرى حفنة صغيرة جداً من كبار الأثرياء الاستغلاليين على مراكمة وزيادة ثروات مهولة بأبعاد لا يمكن قياسها تحت دعوى ما يطلق عليه الصندوق تأكيد استقرار النظام المالي العالمي .
إلا أننا نجد أنه أينما تدخل الصندوق فإنه يقوم بتقويض سيادة الدول عن طريق إجبارها على تطبيق إجراءات وتدابير ترفضها الأغلبية العظمى من سكانها، وعليه فإنها تخلف وراءها ذيولاً ممتدة من الدمار الاقتصادي والاجتماعي .
وعلى الرغم من أن صندوق النقد الدولي لا يلجأ لاستخدام الأسلحة أو الجنود في تحقيق أهدافه، لكنه يقوم ببساطة بتطبيق آليات الرأسمالية والقروض من بينها بصفة خاصة .
واستراتيجيته من البساطة بالقدر نفسه الذي هي عليه من الفعالية: فعندما يقع بلد ما في المشكلات، يأتي صندوق النقد الدولي ليقدم له الدعم اللازم في صورة قروض، وبالمقابل فإنه يطلب من ذلك البلد فرض التدابير التي تكفل تأمين الملاءة اللازمة حتى يتمكن من الإيفاء بهذه الديون المستحقة عليه .
ونظراً لوضع صندوق النقد الدولي في النظام المالي العالمي بوصفه "مقرض الملاذ الأخير"، تجد الحكومات عادة نفسها بلا خيار سوى قبول عرض الصندوق والخضوع لشروطه، وبناء عليه فإنها تقع في مصيدة شبكة الديون، التي تأخذ الحكومات بالتورط أعمق فأعمق حالما تقع في حبائلها نتيجة لأثر الفائدة المركبة المضافة إلى أصل الديون .
ويقود الضغط الناجم عن الوقوع في مصيدة الديون على ميزانية الدولة وعلى الاقتصاد المحلي لتدهور وضعها المالي بصورة لا يمكن تفاديها، والذي يستخدمه صندوق النقد الدولي بالتالي ذريعة لطلب المزيد من التنازلات الإضافية في صورة "برامج للتقشف" .
وتكون التبعات المترتبة على تلك البرامج كارثية على الناس العاديين في البلاد المتأثرة التي هي في الغالب من أصحاب الدخول المتدنية، وذلك نظراً لأن حكومات تلك البلاد تتبع نفس النمط بتمرير وطأة الآثار الناجمة عن التقشف إلى الضعفاء والفقراء من العاملين الذين يتقاضون الأجور .
وبهذه الطريقة فقد كلفت برامج صندوق النقد الدولي الملايين من الناس وظائفهم، ومنعتهم من الحصول على خدمات رعاية صحية مناسبة، أو أنظمة فاعلة للتعليم، أو السكن اللائق .
وجعلت تلك البرامج إمداداتهم الغذائية غير ممكنة، وزادت معدلات التشرد، وحرمت كبار السن من جني ثمار كدحهم في حياتهم العملية الطويلة، وزادت من انتشار الأمراض، وقلصت معدلات عمر الإنسان، وزادت معدلات وفيات الرضع .
أما على الجانب الآخر من الميزان المجتمعي، فقد ساعدت سياسات صندوق النقد الدولي شريحة صغيرة للغاية من كبار الأثرياء على زيادة ثرواتهم الضخمة حتى في أوقات الأزمات .

الفوارق الطبقية

وساعدت تدابير الصندوق بصورة كبيرة في حقيقة بلوغ معدلات الفوارق الطبقية عالمياً مستويات تاريخية غير مسبوقة، بحيث أصبح الفرق في الدخل بين أحد ملوك الشمس البالغي الثراء في نهاية القرون الوسطى وأحد الشحاذين، يبدو ضئيلاً عند مقارنته بالفرق بين مدير أحد صناديق التحوّط ومتلق للإعانات الاجتماعية في أيامنا الحالية .
ويورد الكاتب شاهداً على ذلك يتمثل في مدير صندوق التحوط جون بولسن، الذي بلغت أرباحه في العام 2010 وحده 5 مليارات دولار، ويعادل هذا دخلاً يومياً بمقدار 2 .19 مليون دولار ويبلغ تقريباً عشرة أضعاف مبلغ 2 دولار في اليوم الذي كان يعيش عليه 5 .2 مليار نسمة من سكان العالم في ذلك العام .
ويتناول الكتاب في بدايته مؤتمر "بريتون وودز" الذي عقد في الولايات المتحدة في يوليو/تموز من العام 1944 ونجمت عنه الاتفاقية التي أنشئ بموجبها صندوق النقد والبنك الدوليان، ويعرض للفشل المبكر من قبل المفاوض البريطاني والاقتصادي المعروف اللورد جون ماينارد كينز في توجيه دفة المفاوضات التي نجم عنها إنشاء الصندوق .
أشار إلى خضوع الوفد البريطاني للابتزاز من جانب وفد الولايات المتحدة، التي كانت الرابح الأكبر من الحرب العالمية الثانية بلا منازع، والذي نجح في فرض شروطه وإملاء كل ما يرغب فيه حول ما يتعلق بالصندوق ومقره، والنظم التي تحكم طريقة عمله، بغض النظر عن تصور اللورد كينز للنظام الاقتصادي الجديد الذي كان يفكر فيه .

عن الكاتب

ولد إرنست وولف في العام ،1950 وأمضى سنوات حياته الأولى في جنوب شرق آسيا، وذهب إلى المدرسة في ألمانيا، ثم درس التاريخ والفلسفة في الولايات المتحدة، وعمل في عدة مهن بما فيها الصحافة والترجمة والكتابة للشاشة (نصوص وسيناريوهات الأفلام) .

وصف الكتاب

يقع كتاب "نهب العالم . . تاريخ وسياسة صندوق النقد الدولي" للكاتب إرنست وولف، الذي نشرته دار "تيكتوم فيرلاغ ماربورغ" الألمانية عام ،2014 في 206 صفحات من القطع المتوسط، ويضم مقدمة عامة تتضمن وصفاً تلخيصياً للأفكار والمفاهيم الرئيسية التي تناولها الكاتب، يليها واحد وعشرون فصلاً، ثم ثبت للمصادر والمراجع .

تسارع النمو الاقتصادي

تحدث وولف عن الطفرة في عمل الصندوق في الفترة التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي تميزت بالنمو الاقتصادي المتسارع للدول الصناعية الكبرى بعد ما عرف ب"المعجزة الاقتصادية" التي حدثت في ألمانيا، وقيام الصندوق بنصب شباكه عبر تشديد القيود والضوابط التي يعمل بها، وفرض الشروط نظير تقديمه للقروض .
ويعرض الكتاب لنشأة التجمع الذي يعرف بنادي باريس ويضم ممثلين ماليين من المقرضين الذين هم الدول الصناعية الكبرى والدول المدينة المتلقية للقروض، حيث تجري اجتماعات عضوية النادي تحت إشراف الصندوق الذي يملي خلالها شروطه المجحفة مقابل إعادة جدولة ديون الدول المدينة بدلاً من إعلان إفلاسها .
ثم يتناول انتهاء فترة الطفرة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية التي استغرقت خمسة وعشرين عاماً استمتع خلالها سكان الدول المتقدمة بمستويات غير مسبوقة من الرفاهية الاجتماعية وتحسن الأوضاع الاقتصادية وجودة الظروف المعيشية، وشروع الصندوق في مسار الليبرالية الجديدة مع حلول أوائل عقد السبعينات من القرن العشرين الذي ترافق تدشينه مع الأزمة التي ضربت اقتصاد دولة تشيلي في أمريكا الجنوبية في العام 1973 .

قروض الدول الفقيرة

يتمثل جانب آخر للتدمير الممنهج الذي مارسه الصندوق في غضه الطرف متعمداً عن كيفية توظيف أموال القروض التي كان يقدّمها للدول الفقيرة من قبل بعض الحكام المستبدين، والتي لم يذهب الكثير منها للصرف على المشروعات التي قدمت من أجلها القروض بل لبنود أخرى مثل شراء الأسلحة وملء جيوب المفسدين .
وبدأت أزمة الديون الطاحنة تطل بوجهها الكالح على الدول النامية في أواخر عقد السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن العشرين مع الانهيار الذي حدث في أسعار المواد الأولية التي تشكل عماد صادراتها من جهة، وارتفاع معدلات الفائدة التي تتقاضاها الدول المانحة وعلى رأسها سعر الفائدة الأمريكية الرئيسي الذي قاد لارتفاع تكاليف الإقراض وانخفاض الطلب في الولايات المتحدة، من الجهة الأخرى .
وهنا وجد صندوق النقد الدولي فرصته الذهبية للتدخل بوصفه مقرض الملاذ الأخير لمنع الانهيار الوشيك للنظام المصرفي الغربي من جراء تخلف الدول النامية عن سداد ديونها التي وصلت إلى أرقام فلكية تفوق 567 مليار دولار في العام 1980 .
وقام الصندوق بإملاء شروطه وسياساته المجحفة، وفرض رؤية الليبراليين الجدد الاقتصادية التي تقضي بخروج الدولة تماماً عن الاقتصاد وتقديم الخدمات العامة، وإفساح المجال أمام قوى السوق لكي تعمل وحدها على تصحيح الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"