متاعب أمريكية

04:33 صباحا
قراءة 3 دقائق
جميل مطر

تغيرت أمريكا، هذا ما يقول محبوها من الذين رافقوا مسيرتنا. نرد بالقول، نعم تغيرت. ولكن التغيير الكبير قادم على الطريق. عندما أعقد مقارنة بين «مجتمع صغير»، كنت عضواً فيه، ومجتمع معاصر بنفس الحجم، وللأسف لست عضواً فيه، وأقصد السنة الأولى في برنامج الدراسات العليا في إحدى جامعات القارة الأمريكية، أخرج بقناعة خلاصتها كما صغتها في جملة قصيرة، «حدثت بالفعل تغيرات بدليل أن القضايا التي يهتم بها تلاميذ العلوم السياسية في السنة الأولى الحالية من برنامج الدراسات العليا في جامعة وقورة، تختلف عن القضايا التي كانت تشغلنا ونحن شباب من مختلف قطاعات وطبقات وضيوف المجتمع الأمريكي.. تغيرت أمريكا ونحن أيضا تغيرنا».
كنا ندرس مثلاً، وبحماسة فائقة، قضية ما عُرف وقتها بالمجمع الصناعي العسكري. هذا المفهوم الذي صاغه الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور ليحذر الشعب الأمريكي من مستقبل يزداد نفوذاً فيه هذا المجمع، فيطغى على ما عداه، خاصة المؤسسات الدستورية. هذا المفهوم الذي صكه أيزنهاور صار حجر الزاوية في كل الدراسات، التي ظهرت منذ ذلك الوقت لتدرس وتحلل التوزيع الطبقي في الولايات المتحدة، وتشكيل الطبقة السياسية الأمريكية، ودور البيروقراطية المدنية والعسكرية على حد سواء في صنع القرار الاستراتيجي الأمريكي.
قرأت، مؤخراً، تقارير تناقش الأسس الجديدة للسياسة الخارجية الأمريكية. بين هذه الأسس مفهوم المجمع العسكري الصناعي يعود مهيمناً وقد تغيرت صياغته. سمعتهم يطلقون عليه «المجمع الرقابي الصناعي العسكري». أضيف إليه المكون الرقابي، وفي نظرهم أنه لا يقل أهمية ولا تأثيراً عن المكونين التقليديين، الصناعي والعسكري. هكذا نستطيع القول وبكل الاطمئنان الواجب عند تقويم ما هو آت في المستقبل: إنه لا أمن ولا دفاع ولا استراتيجية متينة ممكنة من دون إدماج عنصر الأمن الداخلي ضمن تفاصيل صنع قرار السياسة الخارجية، وإدراج المواطن الفرد طرفاً أساسياً ضمن أطراف السياسة الخارجية.
يحاولون طمأنة الناس. يقولون: إن المعلومات الخاصة جداً التي سوف تتاح نتيجة استخدام عمليات اقتفاء الأثر لن تذهب إلى مواقع مركزية تحللها أو تستفيد منها بالبيع أو التشغيل. يأتي الرد من السرعة التي استخدمت بها الصين هذا الإبداع. رأينا كيف سلطت الكاميرات على الجماهير المتدفقة، فحصلت على المعلومات التي توختها، من هو هذا المواطن أو هي؟ من أين وفي الطريق إلى أين؟ وهل يحمل معه أو تحمل معها فيروس كورونا؟ حرارة الأجسام تشي بمرض. بريئة السلطة، حتى الآن، على الرغم من أن الدولة لم تستأذن، والقانون لم يستشر، أو على الأقل يراعى. بمعنى آخر، ستكون أمريكا في الشهور والسنوات المقبلة في انتظار خرق جديد لنظام وفلسفة الحكم بالقانون. بمعنى ثالث ينضم إلى تراث دونالد ترامب في تعاطيه مع القانون بنود جديدة. بمعنى رابع، سوف تزداد عمقاً الدولة العميقة التي يخشاها، بل ويكرهها ترامب، وهي أيضاً لا تحبه. هذه الدولة العميقة حاربته. كادت تفتك بمستقبله في الحكم وفي السياسة برمتها. أجهض سعيها فوضى الحزب الديمقراطي، واستماتة الجمهوريين تمسكاً بالحكم. لم تفلح جهود عزل الرئيس. أفلت ترامب، ولكن بتكلفة كبيرة. أهين الدستور الأمريكي، وتلاعبوا بالقوانين. اهتزت إلى الأعماق مكانة الدولة، وازدادت قوة وإصراراً تيارات التفكيك والقوى المتطرفة في قوميتها ويمينيتها. عاد يطفو على سطح السياسة في أمريكا صوت الكونفدرالية وصراخ «الزنج» وخطابات الحرب الأهلية. خطير أمر أمريكا في المستقبل إن هي استعادت رخاء أقلية فيها وفقر أقلية أخرى، وتدهور حال أغلبية في الطبقة الوسطى.
أسأل النفس أحياناً إن كان شعار «أمريكا أولاً» أو لبنان أولاً أو إنجلترا أولاً حقق فائدة تذكر لكل من أمريكا ولبنان وإنجلترا على التوالي، ولكل دولة رفعوا لها شعاراً مماثلاً. أعتقد أن التجربة الأمريكية أثبتت فشل هذا الشعار في تحقيق مصلحة حقيقية وطويلة الأمد للولايات المتحدة. إذ اتضح أن شعاراً آخر كان يختبئ وراء شعار «أمريكا أولاً»، وهو شعار «أنا أولاً». ألم يتجاهل الرئيس المعلومات الاستخباراتية والإعلامية، ومن مصادر في الدولة العميقة، والتي تؤكد جميعها المعلومات عن انتشار متصاعد لفيروس كورونا. تجاهل الرئيس مصلحة أمريكا، حرصاً على عدم الإضرار بمصلحته الشخصية، «أنا أولاً». ثم شن بنفسه حرب كراهية ومعلومات غير ناضجة، عن تقصير أو مؤامرة دبرتها الحكومة الشيوعية في بكين، لصنع فيروس أو ترويجه أو كلاهما معاً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"