أيّ درس تعلَّمه العالم العربي من مقتل جورج فلويد؟

02:51 صباحا
قراءة 4 دقائق
عائشة عبد الله تريم

إذا كانت حكوماتنا لا تقوم على التمييز العنصري، فإن التركيبة الثقافية في عالمنا العربي تحمل الكثير من العنصرية التي تشكل عيباً كبيراً.

في الوقت الذي اضطر فيه معظم سكان الأرض إلى لزوم منازلهم، وأغلقوا أبوابهم خوفاً من فيروس قاتل يترصدهم في كل شارع وفي كل زاوية، فأوقف الحياة في المدن، وهدد اقتصادها بسيف لم يجد حتى الساعة من يقارعه فيكسره، وفي الوقت الذي صار فيه العالم في حالة ترقب وجزع ينتظر الآتي، وقد تفشت البطالة، وحام كابوس الفقر والجوع فوق الرؤوس ينزع من الناس ما تبقى لهم من أمل في الحياة، ويضع على أعينهم قتامة تريهم المستقبل مظلماً، غزا مواقع التواصل الاجتماعي «فيديو» قصير لا تتجاوز مدته ثماني دقائق التقطته عدسة هاتف أحدهم، فشلَّ ما تبقى من قوة في النفوس، وخطف بصيص الأمل بعودة عجلة الحياة إلى ما كانت عليه. ضابط في الشرطة الأمريكية يجثو على ركبته، لكن ليس على الأرض، إنما على عنق إنسان راح يستغيث: «لا أستطيع أن أتنفس!» قبل أن تُزهق روحه وتصعد إلى بارئها. رجل الشرطة لم يصغِ إلى استغاثة الرجل، ولا إلى تحذيرات المارة الذين شهدوا ما حدث بقلوب تنفطر ألماً ومرارة.

مقتل «جورج فلويد»، الرجل الأمريكي ذو البشرة السمراء، جعل الناس يخرجون زرافاتٍ زرافاتٍ متحدِّين فيروس «كورونا» بعدما كادوا يفقدون إحساسهم بالحياة داخل بيوتهم التي تحولت إلى زنزانة كبيرة. لقد كانت استغاثة «فلويد» أقوى من ذلك الاستسلام لفيروس يهدد حياتهم، فهتفوا بصوت واحدٍ باغتَ الرئيس الأمريكي وإدارته، بل باغت العالم كله، مطالبين بالمساواة وبسط يد العدالة على البلاد.

فجأة، استفاق العالم خارج أمريكا كما استفاق داخلها، وكأنَّ نداء «جورج فلويد» أيقظهم من سباتٍ زاده «كورونا» عمقاً وتسليماً. واجتاحت الاحتجاجات المدن، فجعلتنا في حالة ذهول أمام ما يحدث في بلاد لا يعلو فيها صوتٌ فوق صوت الديمقراطية، وعلى «أرض الأحرار وموطن الشجعان»، كما يردد الأمريكيون في نشيدهم الوطني.

كيف يقضي ضابط بمساعدة ثلاثة من أفراد الشرطة بتلك القسوة على رجل مكبل لا حول له ولا قوة، فيرتكب جريمة في وضح النهار، ليس بينها وبين الأعين وعدسات التصوير ساتر؟

«حياة السود مهمة»، وسمٌ حرَّك العالم الساكن، ولم يستثنِ البلاد العربية، حيث علت الأصوات مناشدة بالعدل، متجاوزة الخطوط الجغرافية والفروقات الزمنية.

هذا العالم العربي الذي أصابه ما أصابه من ظلم، وما زالت دول كثيرة فيه ترزح تحت نير المآسي وتعاني، حين انتفضت بعض البلدان فيه على حكوماتها، وعرفت احتجاجات مماثلة لما تشهده أمريكا اليوم، لم تنصف الحكومة الأمريكية، ولا وسائل إعلامها شعوبه، وأخذت البيانات تصدر واحداً تلو الآخر، محملة بنعوت التمييز على أساس العرق والدين. مع ذلك، لا أستهجن بتاتاً أن يرفع العرب أصواتهم، لينضموا إلى وسم «حياة السود مهمة»، فنحن نشعر بمعاناة الآخرين، ونعرف أن لون البشرة لا يمكن أن يكون ذريعة لدخول أحدهم السجن، وأنه لا يمكن لا للَّون الأسود ولا لأي لون من ألوان البشرة أن يكون مسوِّغاً للكراهية والظلم.

ولكن المزعج عندنا، أن هناك من يتسرع في الحكم على ما يحدث في الغرب، وقد يستهزئ بالعيوب ويضخمها. أو ليس من الأفضل أن ننظر ضمن دائرتنا قبل أن نقوم بذلك؟ فلا يظنَّن أحدنا أن العنصرية تقف عند حدود بلد دون آخر، لذا، لنبحث في ذواتنا، لعل بذور العنصرية تكون مزروعة فيها!

إذا كانت حكوماتنا لا تقوم على التمييز العنصري، فإن التركيبة الثقافية في عالمنا العربي تحمل الكثير من العنصرية التي تشكل عيباً كبيراً لا علاقة له بالعقيدة التي تقوم على أساس المحبة والتسامح والمساواة. وقد يبدو ذلك جلياً في التحيز والأحكام المتسرعة التي نسمعها يومياً، والتي تنم عن عُقد لا تفرق بين كبير ولا صغير، ولا بين عرق وآخر، ولم تردعها كذلك الكفاءات العلمية ولا المستويات الاجتماعية والمادية.

إن العنصرية قضية شائكة تنتقل من جيل إلى جيل من خلال القصص والحكايات المتكررة والمتواترة، وقد تتشبث بفكر الكثيرين. ظاهرياً، قد يبدو الأمر عادياً، لأن العنصرية مغطاة بقشرة تكشف ما تحتها بمجرد أن تزيلها المواقف! فالاحتكاك بالناس، والتعمق في نقاش بعض الموضوعات معهم يجعلنا قادرين على كشف المعادن المصهورة بالفكر العنصري.

لقد دفع مقتل «جورج فلويد» ببعض رواد التواصل الاجتماعي إلى نشر صورة سوداء على حساباتهم، فهل هذا ما ينبغي عمله حقاً؟ ألا يجب علينا أولاً أن نبحث في جوانب أنفسنا عن تلك الزوايا المظلمة التي يتوارى فيها التحيز والعنصرية؟ من منّا يستطيع أن يعلن بكل فخر أنه لا ينحاز لعرق أو لون أو دين دون آخر؟

عندما نطرح على أنفسنا أسئلة دقيقة، نكشف عن حقائق مؤلمة تشكلت في بيئات خصبة عززتها وسائل الإعلام ودعمها محيطنا.

يشكل طرح الأسئلة على أنفسنا وما يليه من كشف للحقائق، الخطوة الأولى في حل عقد التحيز والعنصرية التي تختبئ في داخلنا، وتظهر دون أن نعيَ ذلك خلال نقاش ما مع الآخرين. كما أنها قد تكون خطوة لإزالة قناعات تعلمناها، وترسخت فينا نتيجة بيئتنا ووسائل الإعلام التي نتلقاها.

إن فك العقد ليس بالأمر الهين، فتطهير النفس من عيوبها يحتاج إلى جهد قد لا يعرف كيف يبذله أولئك المندفعون وراء غايات سياسية، والذين لم يتعلموا من مقتل «جورج فلويد» درساً يبقي الوسم شعاراً ضد العنصرية لديهم.

ثمة قلوب مصابة بعمى الألوان يصعب الوصول إليها. لكن، إذا أردنا أن نقف حقاً في وجه الظلم، وألا نسمح لأبنائنا بالاستمرار فيه، فلا بد أن نمشي في ذلك الطريق الطويل، لنصل إلى كل القلوب، ونصنع مستقبلاً لا غلَّ فيه، لتشرق حياتنا بشتى الألوان.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"