الإنترنت.. من خدمة إلى سلطة

03:43 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عصام نعمان

الإنترنت ودورها الواسع في شيوع وسائل التواصل الاجتماعي جعلت الإنسان وبالتالي الناخب أكثر قوة وسلطة وتأثيراً وحضوراً.

الإنترنت حالياً خدمة، لاستعمالها يجب على المرء أن يدفع رسماً للجهة التي تمتلك حق توزيعها. منذ أيام بشّرتنا إحدى وسائل الإعلام بأن الإنترنت سيغدو مجانياً؛ أي متاحاً للعموم كالنور والهواء.

منع الهواء عن الإنسان يمنع التنفس ويتسبب في الموت، منعت الشرطة في أمريكا الهواء عن جورج فلويد فقضى مختنقاً، وتظاهر ملايين الناس احتجاجاً. لماذا؟ لأن الهواء شرط للحياة. هل تصبح الإنترنت في قابل الأيام مرادفة للهواء والنور؛ أي شرطاً للحياة؟

أكثر من ذلك، الإنترنت تتحوّل من خدمة إلى سلطة. بحيازته حق استعمال الإنترنت متى يشاء، وفي أي زمان ومكان، يصبح الإنسان أكثر قوة ونفوذاً، وبالتالي أكثر سلطة. كان بعض الثوار اليساريون يهتفون: «كل السلطة للشعب». مع مجانية الإنترنت وتعميمها وشموليتها يمتلك كل الناس السلطة دونما ثورة.

ما تداعيات وانعكاسات هذه الظاهرة المستجدة؟

إن تداعياتها وانعكاساتها كثيرة، وتتجلى في كل مجالات الحياة، لعل مجالها الأكثر عمومية وتأثيراً في حياة الناس، ما يتصل بممارسة السلطة؛ أي بالحكم وآلياته الأكثر شيوعاً ورسوخاً: الديمقراطية.

الديمقراطية في معناها ومبناها المتعارف عليه، قوامها إجراء انتخابات لتمكين الشعب من اختيار ممثليه (نوابه) في مجلس (برلمان) تنبثق منه حكومة تبقى في السلطة، طالما أنها حائزة ثقة أغلبية أعضائه.

لا يُنتخب النواب إلى أبد الدهر؛ بل لمدة معينة لعلها في أغلبية الدول ذات الأنظمة الديمقراطية لا تتجاوز خمس سنوات. والحكمة من تحديد مدة للمجالس النيابية هي لانتخاب ممثلي الشعب في زمان وظروف معينة، سياسية واجتماعية، لها حاجاتها ومتطلباتها. ولأن الظروف تتحوّل وتتبدل، فإن حاجات الناس ومتطلباتهم ناهيك عن آمالهم وأحلامهم تتبدل وتتغير أيضاً.

كثيراً ما يحدث أن الظروف وبالتالي الحاجات والمطالب تتبدل أثناء المدة القانونية المقررة لمجلس النواب، ما يؤدي إلى نشوء شعور وأحياناً قناعة راسخة لدى جمهور الناخبين بأن النواب الذين انتخبوهم لا يعبرون عن إرادتهم ولا عن حاجاتهم ومطالبهم المستجدة، ما يؤدي تالياً إلى المطالبة بإجراء انتخابات جديدة أو يؤدي إلى اندلاع احتجاجات وربما ثورة، إذا امتنعت المنظومة الحاكمة عن إجراء الانتخابات المطلوبة.

ما صلة الإنترنت بهذه الظاهرة المستجدة؟ من الثابت أن الإنترنت عززت شيوع وسائل التواصل الاجتماعي وفاعليتها. أكثر من ذلك، الإنترنت ودورها الواسع في شيوع وسائل التواصل الاجتماعي جعلت الإنسان، وبالتالي الناخب، أكثر قوة وسلطة وتأثيراً وحضوراً، وذلك قد يجعل الاستقرار السياسي ورسوخ المنظومة الحاكمة في السلطة، مضطربين وقابلين للتغيير.

وليس أدل على دور وسائل التواصل الاجتماعي وفاعليتها من ظاهرة اندلاع انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 في لبنان عموماً. صحيح أن هذه الانتفاضة تصدعت وتراخت وفقدت زخمها، لكن ظواهر وانتفاضات مماثلة تنبثق وتتوالد حالياً في شتى دول الغرب والشرق، وتترك آثاراً ومفاعيل عميقة في حاضر المنظومات الحاكمة.

هذه الآثار والمفاعيل تجعل الديمقراطية نظاماً متزعزعاً؛ إذ يصبح محكوماً بأن يواجه خيارين متناقضين: الرضوخ لمطالب الناس المنتفضين والمطالبين بإجراء انتخابات جديدة كلما تغيّرت الظروف ونشأت حاجات ومطالب جديدة، أو رفض إجراء انتخابات والتمسك بالسلطة حتى لو أدى ذلك إلى الاصطدام بالناس الساخطين، والانزلاق إلى الاستبداد وإراقة الدماء، وذلك يطرح بدوره سؤالاً: كيف يكون الخروج من معضلة الانشغال بانتخابات شبه متواصلة بسبب تبدل الظروف وأمزجة الناس وحاجاتهم ومطالبهم، أو الانزلاق إلى حالة الاستبداد والتمسك بالسلطة مهما كان الثمن؟

تراودني في هذا السياق فكرتان:

الأولى إرساء قاعدة استفتاء الشعب دورياً أو عندما تلح ظروف. الثانية أن يُصار إلى اختيار مجموعة من كبار الحكماء العلماء من عشرة مجالات رئيسية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية وذلك في استفتاء شعبي عام يُجرى كل خمس سنوات، ويؤلف هؤلاء الحكماء بمجرد اختيارهم، مجلساً للحكم والرعاية مشرفاً على تكوين وإدارة السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعلى إدارة مؤسسات البلاد والعباد وفق أحكام الدستور والقوانين النافذة.

باختصار، الديمقراطية التقليدية في أزمة، وكذلك إيجاد الحل المناسب في زمن الإنترنت التي جعلت المواطن ناهيك عن اجتماع المواطنين سلطة لعلها أقوى السلطات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

مُجاز في الحقوق ودكتور في القانون العام ومحام منذ السبعينات .. أستاذ محاضر في القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية زهاء عشر سنوات .. نائب ووزير سابق .. له مؤلفات عدة وعديد من الأبحاث والدراسات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"