التحدي الجنوبي وحكمة القرار المصري

05:28 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

مصر اليوم تجسد مصر التاريخ والحضارة، التي لم تعتدِ أبداً على أحد، بل كانت دائماً جاهزة لحماية أمنها وأمانها وحقوقها ومكتسباتها.

لا حديث في مصر يعلو على حديث النيل وسد النهضة خلال الفترة الأخيرة، ورغم التحديات التي تسعى قوى الشر من خلالها إلى محاصرة مصر من الشرق، والغرب، والشمال، إلا أن التحدي الجنوبي هو الذي يشغل الناس، بمختلف فئاتهم، وطوائفهم، سواء على مواقع التواصل الاجتماعي، أو في الحياة الواقعية؛ كلام البسطاء عن هذا النهر لا يقل بلاغة عن كلام المثقفين، والكلمة واحدة على ألسنة الجميع: «إلا النيل».

نعم «إلا النيل»، فهو شريان الحياة لكل أهل مصر منذ الأزل، وهو المجرى الذي شكّل خريطة الدولة منذ عهد الفراعنة، وهو الذي سوّد أرضها، وخصّب تربتها، وميّزها زراعياً، وهو النهر الذي أقام على ضفافه قدماء المصريين حضارة شغلت، ولا تزال، العالم، وسيظل سرها، وألغازها عصية على أهل العلم مهما ازدادوا علماً، وهو المجرى الذي قدّسه الناس، وخشوا غضبه، وزوّجوه أجمل فتياتهم عندما كانوا يلقون فيه عروساً كل عام، ويحتفلون، ويغنون، ويرقصون فرحاً بذلك، وهو الذي كتب عنه كبار الشعراء أجمل قصائدهم، واستلهم منه الأدباء أجمل رواياتهم، ورسمه الفنانون في أعظم لوحاتهم، وتغنى به كبار المطربين بأغان ستظل خالدة، وعلى ضفافه صوّر السينمائيون أعمالاً أبهرت مشاهديها.

النيل للمصريين ليس مجرد مجرى مائي، ولكنه ملتقاهم، وجامع عشاقهم، وراوي ظمأهم، ومخضر أراضيهم، وجاذب السياح إلى بلادهم، ومصدر رزق لملايينهم، وباعث الأمل فيهم عبر التاريخ؛ الأمل الذي تحول خوفاً وغضباً خلال العقد الأخير عند البسطاء، منذ بدأت تتردد أنباء سد النهضة على مسامعهم، وكان الغضب يزداد حدة كلما فشلت جولة من المفاوضات، ووضعت العراقيل أمام اتفاق لا يبخس أحداً حقوقه.

ورغم الغضب الكبير الذي كان عنصراً ضاغطاً على صانع القرار المصري، إلا أن الرئيس عبدالفتاح السيسي تحلى بالكثير من الحكمة، والهدوء، والثقة، بأن لا أحد يستطيع أن ينتزع من شعب مصر حقوقه، وكان منذ توليه المسؤولية حريصاً على ألا يصدّر للمصريين سوى الأمل في الغد، وبأن مصر قادرة على مواجهة التحديات، وبأنها أبداً لن تسمح بأي خطوات تهدد وجودها، وتنال من حق شعبها في الماء، وبالتالي في الحياة والبقاء.

ولعل عالم التاريخ اليوناني هيرودوت كان هو الأكثر وعياً بطبيعة العلاقة التي تربط بين المصريين، ونهر النيل، عندما قال عبارته الخالدة «مصر هِبة النيل»؛ ولعل الرحالة ابن بطوطة كان محقاً عندما ربط النيل بمصر قائلاً: «نيل مصر أفضل أنهار الأرض عذوبة مذاقاً واتساع قطر، عظيم المنفعة، والمدن والقرى بضفتيه منتظمة ليس في المعمورة مثلها، ولا يعلم نهر يزرع عليه ما يزرع على النيل، وليس في الأرض نهر يسمى بحراً غيره». ولعل المصريين اليوم لديهم حق في أن يرددوا على مواقع التواصل «إذا انخفض منسوب النهر، فليهرع كل جنود الملك ولا يعودوا إلا بعد تحرير النيل مما يقيد جريانه»، باعتبارها كلمات منقوشة على جدران مقياس نهر النيل بالمنيل، حتى إن شكك فيها البعض، من منطلق أن مقياس النيل لم ينشأ في زمن الفراعنة. المهم هو الربط بين النيل ووجود مصر، وعدم قبول أهلها بمجرد تقييد جريانه، وليس نقص حصتهم التاريخية في مياهه.

مصر لم تنكر يوماً حق إثيوبيا في التنمية، ولكنها لم، ولن تتغافل عن حق مصر في الحياة، وتؤكد دائماً «حق تنميتهم ليس مقبولاً أن يكون على حساب حياتنا ووجودنا». والتحريض الذي مارسته، ولا تزال، فئات شعبية للجوء إلى الحرب لحل الأزمة لم يغير من قناعات صانع القرار المصري الذي يدرك أن دول حوض النيل يربط بينها شريان حياة، ويشربون جميعهم من وعاء واحد، ولا ينبغي أن يتجاوز أحدهم على حقوق الآخرين.

اختارت مصر أن تسير في طريق التفاوض، والتفاهم، والاتفاق، ورغم أن الطريق قد طال فإن القناعات حتى الآن لم تتبدل، ولذلك بدأ طريق التفاوض ثلاثياً، وعندما ضاق الوقت بلا اتفاق كان طلب وجود وسيط أمريكي، والبنك الدولي، وعندما تهربت إثيوبيا من توقيع الاتفاق كان تعريب، وأفرقة، وتدويل القضية من خلال تدخل الجامعة العربية، والاتحاد الإفريقي، وكان الفصل الأخير هو اللجوء إلى مجلس الأمن الذي أبلتْ فيه الدبلوماسية المصرية بلاءً حسناً، ليشهد العالم كله أن مصر لا تكلّ، ولا تمل من طرق أبواب السلام لنيل حقوقها.

مصر اليوم تجسد مصر التاريخ والحضارة التي لم تعتد أبداً على أحد، بل كانت دائماً جاهزة لحماية أمنها، وأمانها، وحقوقها ومكتسباتها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"