ديليسبس.. ذلك المحتال العنصري

05:35 صباحا
قراءة 4 دقائق
عبدالله السناوي

ما جرى مع المصريين أثناء حفر قناة السويس جريمة عنصرية متكاملة الأركان تستدعي المحاسبة والإدانة والاعتذار عن جروح الماضي.

ليس هناك مسوغ واحد مقنع ومتماسك للدعوة مجدداً لإعادة تمثال «فرديناند ديليسبس» إلى قاعدته عند مدخل قناة السويس.

بالتوقيت لا تحتمل مصر صرف انتباهها عن الأخطار، التي تتهددها في وجودها بأزمة «سد النهضة»، أو في أمنها القومي عند حدودها الغربية مع ليبيا.

نقطة نظام أولى: في حرب السويس عام (1956) نزع تمثال «ديليسبس» من موضعه، بإرادة أهل بورسعيد، الذين حاولوا نسفه مرة تلو أخرى، تعبيراً عن روح المقاومة وطلب عودة الحق إلى أصحابه. لم يكن نزع التمثال بقرار إداري حتى يعود بقرار مماثل.

نقطة نظام ثانية: بالوثائق المصرية والفرنسية قاد «ديليسبس» أخطر عملية احتيال في التاريخ الحديث، حيث امتلكت مصر (٤٤%) من رأسمال الشركة، دون أن يكون لها أي سيطرة على أمورها، فضلاً عن التضحيات الباهظة التي دفعها فلاحوها أثناء حفر القناة. فتحت السخرة مات نحو مئة ألف مصري في عمليات الحفر، وهو رقم مهول بالنظر إلى عدد السكان في ذلك الوقت، نحو أربعة ملايين نسمة.

السخرة أسوأ أنواع العنصرية. إذا كان يُقال اليوم بعد تداعيات مقتل المواطن الأمريكي الأسود «جورج فلويد»، إن «حياة السود مهمة»، فإنه يجب القول: إن حياة البشر كلها مهمة، وحياة المصريين مهمة، وإن ما جرى معهم أثناء حفر قناة السويس جريمة عنصرية متكاملة الأركان تستدعي المحاسبة والإدانة والاعتذار عن جروح الماضي، لا إعادة وضع تمثال «ديليسبس» في موضعه القديم.

نقطة نظام ثالثة: في أعقاب مقتل «فلويد» عمت الولايات المتحدة تظاهرات واحتجاجات، كأنها براكين غضب على العنصرية المتجذرة، هدمت تماثيل، وأزالت لوحات تكريم لجنرالات وقادة عنصريين انخرطوا في الحرب الأهلية، بقدر ما دعت لإصلاح جهازي الشرطة والعدالة.

براكين الغضب نالت شخصيات تاريخية، مثل الرئيس الأمريكي «وودرو ويلسون» مؤسس عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، الذي دعا إلى مبدأ حق تقرير المصير، دون أن يلتزم به عندما هبت الثورة المصرية عام (1919).

عندما امتدت شرارات الغضب إلى القارة الأوروبية جرى هدم تماثيل أخرى لشخصيات ذات سجل عنصري.

في بريطانيا تأذت سيرة رئيس وزرائها الأسبق «ونستون تشرشل»، الذي قاد بلاده إلى النصر في الحرب العالمية الثانية برذاذ سجله العنصري إلى درجة المطالبة بهدم تماثيله.

إذا كان ذلك ممكناً في أكبر بلدين غربيين الولايات المتحدة وبريطانيا، فهل يُعقل أن نحتفي هنا بمحتال عنصري مثل «ديليسبس»؟

بعض الذين يدعون إلى إعادة التمثال يقرون بأنه كان محتالاً، فإذا كان كذلك، فهل يليق ببلد يحترم نفسه وتاريخه أن يُقدم على خطوة هي بأي اعتبار نوع رفيع من التكريم!

نقطة نظام رابعة: الأسوأ أن يُقال إن إعادة تمثال «ديليسبس» ينطوي على إشارة صداقة إلى فرنسا، والحرص على تدعيم العلاقات معها!

الكلام بنصه ينزع عن حركات التحرير الوطني شرعيتها التاريخية والأخلاقية.

والكلام برسالته أقرب إلى السذاجات السياسية، فالعلاقات بين الدول تحكمها المصالح والاستراتيجيات قبل وبعد كل شيء.

بحسابات المصالح الاستراتيجية، اقتربت فرنسا من الموقف المصري في الأزمة الليبية والصراع على الغاز في شرق المتوسط، كما في أزمة «سد النهضة»، لا بتهويمات عودة تمثال «ديليسبس». نقطة نظام خامسة: لم تكن مصادفة أن يعتذر الملك البلجيكي للكونجو الديمقراطية في ذكرى اغتيال أيقونة حركات التحرير الوطني الإفريقية في خمسينات وستينات القرن الماضي «باتريس لومومبا».

مصالح بلجيكا حكمت اعتذاره قبل الاعتبارات الأخلاقية.

بدت كلماته واضحة وصريحة في الاعتراف ب«جروح الماضي»، و«آلام التمييز التي ما زالت حاضرة في مجتمعاتنا».

ماذا عن جروحنا نحن.. وآلام التمييز العنصري، التي عاناها أجدادنا في حفر قناة السويس؟

نقطة نظام سادسة: لم تكن قناة السويس لمصر، التي حفرتها على مدى ستة عشر عاماً متصلة، وفق نص التعاقد الذي أبرمه «ديليسبس» مع الخديوي «سعيد»، الذي استنزف موارد مصر وقدراتها المالية، وأسقطها في شرك الديون الخارجية، وأفضى إلى احتلالها عام (١٨٨٢) بالسلاح البريطاني.

بدت مصر كلها رهينة للقناة، حتى تمكنت من تأميمها منتصف القرن التالي. لم تكن شركة تستثمر بقدر ما كانت دولة داخل الدولة.

بقرار التأميم رد اعتبار الوطنية المصرية، وتمكنت دولة من العالم الثالث من تحدي الإمبراطوريتين السابقتين البريطانية والفرنسية في صلب مصالحهما الاستراتيجية في الشرق الأوسط، حيث منابع النفط الذي تمر حمولاته عبر قناة السويس.

اكتسبت مصر استقلالها الوطني الكامل في حرب السويس بفواتير الدم المبذولة، وشجاعة أبنائها الذين هرعوا لحمل السلاح في مواجهة العدوان الثلاثي، البريطاني الفرنسي الإسرائيلي، لا ب «اتفاقية الجلاء»، التي وقّعها «جمال عبدالناصر» نفسه عام (١٩٥٤)، وانطوت على تنازلات تتيح للقوات البريطانية حق العودة لقاعدة قناة السويس، إذا ما تعرض بعض حلفائها للخطر.

فكرة التأميم لم يخترعها «عبدالناصر»، ولا طرأت على رأسه فجأة. قبل «يوليو»، ترددت دعوات متناثرة تضمنتها أحياناً دراسات تتبنى هذه الخطوة، لكنها كانت أقرب إلى الأحلام البعيدة والتخيلات المحلقة.

ليس من حق أحد، بذريعة أو أخرى، هدم المعنى الحقيقي لاستقلال القرار الوطني.

المعنى نفسه يستحق الدفاع عنه، الآن وفي كل وقت، بمناسبة الكلام مجدداً عن عودة تمثال «ديليسبس» أو دون مناسبة، حتى تظل للذاكرة العامة احترامها وحرمتها.

وهذه نقطة نظام سابعة: في ملف لا يصح أن يُعرض على بلد اكتسب ذات يوم استقلال قراره بدم أبنائه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"