جنون العظمة

04:01 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد نورالدين

اللعب بنار الحساسيات الدينية وتأجيجها، لا يصنع زعامة ولا يدخل إلا في باب «جنون العظمة»

تحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرة، عن أن تركيا ستصل في بسط نفوذها إلى آخر نقطة وطئتها حوافر خيل السلطان سليمان القانوني. وفي الأدبيات العثمانية لحزب العدالة والتنمية، ومسؤوليه السابقين، والحاليين، إشارة دائمة إلى «عظمة» السلاطين العثمانيين، من عثمان، إلى بايزيد، إلى محمد الفاتح، وسليمان القانوني، وعبدالحميد.

وفي العهد الجمهوري، بعد 1923، لم تكن هناك إشادات بالحقبة العثمانية، لكن لم تكن هناك عداوة. ما فعله أتاتورك هو محاولة تصفية إرث رهيب من الأمية، والتخلف، والجمود في الفكر، والواقع الاجتماعي الموروث عن تلك الحقبة. لذا كانت محاولة الدخول في الحداثة من بابها الغربي.

ومع حزب العدالة والتنمية، كانت هناك محاولة متدرجة للردّة عن تجربة التحديث التركية، والعودة بالذهنيات والأفكار إلى حالة ما قبل الجمهورية، من خلال السعي لتغيير الوقائع التي جاءت بها تجربة التحديث، وضرب الرموز والشواهد التي تذكّر بها.

من ذلك مثلاً، إلغاء مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول، الذي كان المطار المركزي في تركيا، وبوابتها إلى العالم، وبناء مطار جديد وكبير في القسم الشمالي، في مضيق البوسفور، وإطلاق اسم «مطار إسطنبول» عليه، لينسى الأتراك، والعالم، مجرد ذكر اسم أتاتورك.

ومن ذلك، اعتبار أردوغان أن معاهدة لوزان عام 1923 هي هزيمة لتركيا لأن أتاتورك تخلى عن حدود الميثاق الملي في رسم الحدود الجديدة للجمهورية، فيما كانت المعاهدة أكبر حدث في تاريخ تركيا الحديث، لأنها أعادت تحرير وتوحيد تركيا من براثن القوات المستعمرة، وفي رأسها بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، واليونان، ولولاها لم يكن لتركيا الحالية قائمة. وكل الهدف من ذلك هو كسر أهم إنجاز لأتاتورك.

والأمثلة على ذلك كثيرة. لكن آخرها، قبل أسبوع، والذي ضج به العالم، كان إصدار مرسوم رئاسي، بتغطية صوَرية من القضاء، بتحويل «متحف» آيا صوفيا إلى مسجد، والإعلان أنه في 24 يوليو/ تموز الجاري، (تاريخ توقيع معاهدة لوزان)، سيتم افتتاح المسجد رسمياً بصلاة جمعة. وإلغاء قرار مجلس الوزراء التركي عام 1935 بتحويل مسجد آيا صوفيا إلى متحف، كان بهدف كسر واحد من القرارات الرئيسية التي ترمز إلى عهد أتاتورك.

وآيا صوفيا في الأساس، كان كنيسة ورمزاً للدولة البيزنطية. لكن السلطان محمد الفاتح بعدما استولى على القسطنطينية عام 1453 سمح لجنوده الانكشارية باستباحة المدينة ثلاثة أيام، ناهبين أموالها، ومغتصبين نساءها. ومن بعد ذلك أمر بتحويل الكنيسة الشهيرة إلى جامع، وبنى له مئذنة. واستمر الأمر كذلك إلى أن أصدر أتاتورك قراراً باعتبارها متحفاً.

وإلى استهداف أتاتورك والأتاتوركية، فإن أردوغان أراد من وراء القرار إصابة هدفين رئيسيين آخرين:

الأول داخلي، وهو التحضير لمعركة الرئاسة الأولى في عام 1923، ومراكمة «الإنجازات» عبر تصعيد للخطاب الديني والعرقي الذي يدغدغ الفئات المتدينة، والمتزمة، والعنصرية، في المجتمع، لكسب أصوات، ولو قليلة، تكون مفيدة له في الانتخابات، بل ربما لجأ أردوغان لانتخابات رئاسية مبكرة إذا وجد أن الظروف باتت مهيأة، في وقت لا تبدو المعارضة حتى الآن منسجمة فيما بينها، خصوصاً مع دخول «فرسان» جدد للساحة السياسية المناهضة لأردوغان، مثل عبدالله جول، وأحمد داود أوغلو، وعلي باباجان.

والثاني خارجي، وهو أنه بعد التقدم العسكري الذي حققه أردوغان في ليبيا من خلال دعمه المباشر لحكومة فايز السراج، وتحوله إلى لاعب مؤثر في الصراع في شرق المتوسط وشمال إفريقيا، أراد أردوغان مراكمة هذا الإنجاز (المؤقت حتى الآن)، والانتقال من صورة الزعيم الإقليمي إلى صورة الزعيم العالمي، بإنجاز جديد بقرار إعادة الكنيسة إلى جامع، وإظهار نفسه على انه القائد الذي تحدى كل المسيحيين، ولا سيما الأرثوذكس، وفي رأسهم أوروبا، وروسيا، مراهناً على أن ردود الفعل العالمية لن تتجاوز حتى الآن عتبة التنديدات، وما هي إلا أسابيع وينسون هذه«الفعلة».

لقد أخطأت الأتراك بحق آيا صوفيا مرتين: الأولى عندما حول الفاتح كنيسة إلى جامع، والثانية عندما أعادها أردوغان جامعاً. وفي كلتا الحالتين، فإن اللعب بنار الحساسيات الدينية، وتأجيجها، لا يصنع زعامة، ولا يدخل إلا في باب «جنون العظمة» التي جرّبها الكثير من قبل، وفي مقدمهم إدولف هتلر. والنهاية معروفة للجميع.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

باحث ومؤرخ متخصص في الشؤون التركية .. أستاذ التاريخ واللغة التركية في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية.. له أكثر من 20 مؤلفاً وعدد من الأبحاث والمقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"