بالأمل نتغلب على القلق

04:00 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

وصلني صوتها على الهاتف ملحاً بكل الاحترام المعتاد، ومعاتباً بكل الحب الذي نشأ ثم نما عبر سنوات عديدة من الزمالة والرفقة في مهمة واحدة وفي موقع لم يتغير. قالت: تأخرت يا أستاذي. للمرة الثالثة أو الرابعة خلال مدة قصيرة تتأخر في تسليم مقالك الأسبوعي، وأنت الكاتب الذي كنا نحسب الوقت على مواعيده. أجبت بصوت خرج همسا منهكاً: «كنت على وشك تقديم اعتذاري عن عدم الكتابة، وللحق كانت مقالتي أمامي، مكتوبة وجاهزة للنشر. وأنا لا أريد. لا أريد أن أزيد القلق عند قارئ لا ذنب له، وفي الغالب لا شأن له، بصناعة الأخبار وتحليلها ونشرها. صرت لا أجد في ما أقرأ وأسمع سوى ما يُقلق، وبدورنا لم نعد نكتب سوى عن أمور تُقلق. لم أحلم يوماً بنفسي كاتباً تسبقه سمعة ترويج القلق وإجادة التعليق عليه».
القلق في كل بيت. قلق كالقلق في كل العالم بسبب تطورات الحرب العالمية ضد كورونا. خسرنا وأقصد خسرت البشرية بكل ما أوتيت من علم وتكنولوجيا وثروات وأطباء وممرضات وسياسيين وقادة عظام، خسرت معاركها الأولى مع الفيروس. مرت سبعة أشهر لم نحقق نصراً واحداً حاسماً ضده، بينما استمر يحصد مئات الألوف من البشر، وحده أو متحالفاً مع قوى أخرى تناصب الإنسان عداوة أو أكثر. اليوم على غير معظم الأيام الفائتة استيقظت على خبر يفيد بأن جامعة أكسفورد على وشك إنتاج لقاح مضاد للفيروس الذي ما زلت أصر على أنه شرير.
أعترف بأن موجات من التفاؤل حاولت في البداية تخفيف حدة القلق، ليس فقط عندي، ولكن عند آخرين في كل أركان الدنيا. كان الأمل أن تنتفض حكومات، نعم أقصد حكومات تنتفض، فتقرر تسوية الخلافات بين بعضها بعضاً، والخلافات بينها وبين شعوبها، والخلافات بين أجهزتها وبعضها بعضاً. غريب أمر الإنسان، أن يأتي مثل هذا العدو الخارجي ويهدد سلامة البشر والمؤسسات والقيم والحضارة، والسياسيون عنه لاهون بطموحاتهم الشخصية وأوهامهم التوسعية.
لم تعش موجات التفاؤل طويلاً. انتهينا، كما في حالتنا الآن، والقلق يعشش في كل بيت ومكتب وشارع ومدينة. انتهينا وقد ازدادت الخلافات بين الناس؛ ارتفعت معدلات الجريمة والتحرش والسرقات وازدادت إثارة حكايات الفساد.
ذات لحظة عشنا مع حلم. الجامعة العربية تتحرك. راح الظن إلى أن دولاً بعينها أدركت أن الوقت حان ليجتمع المسؤولون عن الصحة في الدول الأعضاء ويرفعوا تقريراً إلى رؤساء الحكومات، وهؤلاء بدورهم يقترحون أن القمة ضرورية لتخصيص موارد كبيرة وتكليف جهات عربية أو دولية تتولى زمام الأمور قبل أن يفتك الفيروس بالأمة. لاحت فرصة أعرف أن كل حريص على مستقبل أفضل لهذه الأمة التعيسة ينتظرها، ينتظر فرصة أن يتحرك القادة العرب تحرك رجل واحد، فيقررون وتنفذ قراراتهم، فيعودون ليقرروا قرارات أخرى وتنفذ قراراتهم.
ذات لحظة أخرى، اجتمع قادة دول الاتحاد الأوروبي ليقرروا في أمر خطر. الاتحاد الأوروبي مهدد بالانقراض إذا عجزت دوله عن دفع عجلة النمو في أوروبا وتعويض العجز الناتج عن حرب كورونا. تعطلت مصانع، وتغيرت سلوكيات ملايين البشر، وتضخمت أرقام البطالة، وتعقدت ظروف الحياة في دول كثيرة، وفي الوقت نفسه لم تكن كل العلاقات بين أعضاء الاتحاد في حالة جيدة. أربعة أيام عاشتها أمم أوروبا واجمة. تفرغ القادة جميعاً بدون استثناء خلالها للقضية الواحدة التي اجتمعوا من أجلها، تركوا عواصمهم ووضعوا الكمامات تواضعاً على وجوههم. لم يكن بين البدائل المطروحة الخروج بدون قرار أو بقرار إنشائي أو عاطفي.
ظهرت صورهم جادين، وحدة أوروبا كانت على المحك. السؤال الطاغي لأربعة أيام: هل نجدد الأمل في مستقبل أوروبا أم نستمر في لهونا اعتماداً على عودة أمريكا لتقود. الطامع في فشل الاجتماع تمنى الفشل، وربما ساعد بالتخريب في تعميق الخلاف. في النهاية انتصرت أوروبا، خرجت بمشروع تنمية لسنوات عديدة من دون مساعدة من الولايات المتحدة، وفي الواقع ضد رغبة رئيسها، ورئيس روسيا، ورئيس تركيا.
هناك على الناحية الأخرى من الأطلسي يقف رئيس الولايات المتحدة ، يعلن من فوق جميع المنابر أن الفيروس صيني المنشأ والهوى والغرض. أدرك مبكراً أن حملته الانتخابية ستفتقر إلى قضية «شعبية». الكره الذي نشره في الشارع الأمريكي عاد إليه محمولاً على جناحي فيروس. أقدم على مغامرة لا يُقدم عليها إلا مغامر محترف. أدخل الوطن كله شريكاً فيها، قال إن الصين انتجت الفيروس في معاملها وصدرته لأمريكا والعالم، أو أخفت معلومات ظهوره وانتشاره عن عمد لتصيب ملايين البشر في الغرب بالمرض. لم أخطئ، ولم يخطئ كثيرون غيري توجسوا شراً من وراء الحملة ضد الصين، ليس فقط بسبب كورونا.
أخطأ ترامب حين بالغ في تصدير الكره و«تحشيد» الدبلوماسية وحلفاء أمريكا، والدفع بقوى بحرية إلى منطقة الباسيفيكي. عرف ترامب أنه في عصر العولمة لا تتمسك الدول بأولوية تعاقداتها السياسية، الأهم دائماً التعاقدات التجارية والمالية. حلفاء الأمس هم حلفاء الأمس، بدا واثقاً بأنه لو تأخر فسيجد دول جنوب شرق آسيا وقد صارت خاضعة لاتفاقات واستثمارات صينية لن تتمكن أمريكا من تخليصها منها.
الأشهر القادمة حُبلى بشتى أنواع القلق: كورونا عنصر واحد من عناصر عديدة مثيرة للقلق، الوضع العربي عنصر آخر وحسابات الرئيس ترامب الشخصية عنصر ثالث، وجني «إسرائيل» ثمار انتصاراتها عنصر رابع، وزحف العنف نحو وديان الأنهار الكبرى في الشرق الأوسط عنصر خامس.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"