الحبر.. بحر حرية

03:40 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. نسيم الخوري

الحبال في لبنان تضيق وتشتدّ حول أعناق النصوص والكتّاب والصحفيين، حتّى النقد الوطني الرسولي الصريح صار مداناً ومهدّداً.

جائز تشبيه بعض البرلمانيين والوزراء والمديرين الإداريين وجمهرة الموظّفين، بالأحجار الصمّاء الصامتة المتراكمة في زوايا الجنائن المحيطة بقصور الزعماء وكبار المسؤولين. هذا مشهد شائع قد نصادفه، لكن بنسب متفاوتة في الحضارة. لكنّه صار، في لبنان مشهداً محزناً بل مخيفاً بألوانه الطائفية المقلقة، كأنّ الإصبع على الزناد. الأشدّ غرابة، غياب المعايير وضحالتها في كيفية وصول أحدهم ممّن لم يسمع به أحد إلى تسلّم رئاسة حكومة أو تسلّم وزارة تصيب المحظي بها بالدهشة، وكأنّه في غفلةٍ من الزمن انتبه الزعيم إليه حجراً منقوعاً في الشمس والطاعة، فأمر برمشة عينه برفع الحجر ووضعه في جدار السلطة ثمّ صقله. هكذا يصبح الحجر البشري سياسياً جاهزاً للأمر ومساءلة الآخرين وقصاصهم في ساديّةٍ لبنانية لا حدود قانونية تردعها، ولا يمكن تبريرها أو فهمها وهضمها. الأشدّ غرابة المضاعف للاستنكار والانتحار والعنف المتزايد ، أنّ المسؤول إياه يتماهى بالزعيم إلى درجة الذوبان والاختباء في الأكمام، ويتناسى بلحظة أن المناصب كلّها سلطان مؤقت إلى زوال، وخصوصاً في زمن ثقيل تبدو فيه الدول والشركات العالمية ورؤوس الأموال تطير مثل النسور الجارحة المجنونة في زمن العواصف الكبرى والانهيارات والموبقات، فلا تعرف أين تغطّ، بينما الكلمة النظيفة الحرّة ستبقى سلطاناً قائماً إلى الأبد تزهر كما الياسمين تحت الضوء، وكما الحبر الحرّ في جرح سمكة حرّةٍ عبرت المحيطات، وهي تتأهّب لتوليد بويضاتها، لمزيدٍ من الحريّة التي لم تخرج من أمّها شهادةً للكلمة البداية.

أكتب هذا لأنّ الحبال في لبنان تضيق وتشتدّ حول أعناق النصوص والكتّاب والصحفيين، حتّى النقد الوطني الرسولي الصريح صار مداناً ومهدّداً، وأننا نلمح معاً جمراً يعارك الحرج بين أنامل العديد من القضاة والأجهزة التي تسحب الأقلام، وسبابات التواصل الاجتماعي المتدفّقة على مضضٍ نحو القصاص.

الكتابة باقية ما بقيت الأرض. وتكفينا الإشارة إلى أن حضارة الكتابة والكتّاب والنصوص والسطور جاءت أساساً من رحم الحضارة الزراعيّة والفلاحة التي يدعى إليها في لبنان اليوم اتقاء للجوع في زمن لبناني، لا مياه فيه ولا أدوات حراثة، ولا كهرباء ولا بذور محليّة، ولا مال حيث كلّ ما عندنا مستورد، ويقرّش بالدولار الذي بات أسير مجموعات يجهضون معنى الهناء والمحبة والألفة في الوطن الصغير. إنّ القلم بين أيدي الكاتب النظيف يشابه المحراث بين أنامل الفلاح، يسوق ثورين فيحرّك يباساً في الأرض. لطالما ساوى المعلّمون في الصفوف المدرسيّة الأولى، ومن دون أن يدروا، بين الاثنين. كان المعلّم يطمح أن يستوي القلم بين أنامل أطفالنا وأحفادنا إلى رسم السطور المستقيمة التي لا تلتقي بتوازيها، ولا تنزلق إلى الأسفل فوق الدفاتر، كما يطمح الفلاحون وأصحاب الأراضي الزراعية إلى رؤية أو رسم الأثلام المستقيمة أمام النظر عند فلاحة أراضيهم وحقولهم. وتكمن بين الخط المستقيم والمنحني، أدبيات الفرق بين الصلاح والفساد والصدق والكذب في حكم البلاد والعباد.

إذ أعتذر من قرّائنا في هدأة الخليج، لست من مدرسة نشر الغسيل فوق الحبال بقدر التوق إلى ضوء منظومة الصوت، أو الحبر أو التفكير الجالس في الحكم الذي وكأنّه صار بعيداً. قد يجنّ مسؤول اليوم لدى الإشارة إلى ثرواته المتدفقة عليه، والناس جياع، من صرف النفوذ والتلذذ بالفساد والتنكيل، إذا ما نشر أحدهم تهمة موثقة بكل العناصر التي نعلّمها وعلّمناها في ميادين الثوثيق في كليّات الإعلام في لبنان. كيف لمسؤولٍ أن ينسى ماضيه وحاضره، وإمكانيّة الجائع أن يخلعه يوماً ببساطة طبيبٍ يخلع ضرساً من تجويفته. قد لا يستأهل هؤلاء نعمة الحبر وبركته، لكنه يقوى في جرأته مركّزاً نماذج مرفوضة معظمها من المشتبه والملتبس. نقول: «معظمهم»، خوفاً من التعميم الذي قد إلى قراءة سريعة يدفع نحو السجن. لشدة ما ابتلينا بأحداث وموبقات، تعب الحبر والشعب بانتظار العقل والعدل. وبات أصحاب السلطة بين قوسين سميكين من غرور السلطة والسلطان

قد يموت الجائعون ويغيب المسؤولون، لكن الحبر المصفّى النظيف لن يموت. والغريب أحياناً أنقي من قريب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"