تراجع الصحافة

03:37 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

كانوا يقولون قديماً (إن لكل زمان آية، وآية هذا الزمان الصحافة)؛ لكن عوامل مؤثرة قد جدت على الموقف؛ دعت الكثيرين إلى الاعتقاد بأن الصحافة الورقية تنسحب أمام التطور الإلكتروني الكاسح، والثورة الكبرى في عالم تكنولوجيا المعلومات، ولقد كان ذلك هو الشعور السائد في العقدين الأخيرين حتى أن كثيراً من الصحف العربية والأجنبية قد استبدلت بطبعاتها الورقية طبعات إلكترونية، كما أن بعض تلك الصحف قد ألغت طبع النسخة الورقية تماماً مكتفية بوجود صفحات الجريدة على وسائل التواصل الاجتماعي، والمواقع الإلكترونية، مع توفير ضخم في النفقات والجهود، وكأنما جاء ذلك الداء اللعين الذي حمله فيروس «كورونا» لكي تسرع الصحافة الخطى نحو الطفرة الإلكترونية، مبتعدة عن الشاطئ الورقي، وهناك جيل؛ بل وأجيال ارتبطت بأوراق الصحف وأحبار المطابع وملمس الجريدة، وأنا ممن يظنون أن الصحافة الورقية وإن تراجعت إلا أنها لن تختفي تماماً، فالصحيفة الورقية وثيقة منشورة تعتز بها الأجيال، وتحرص عليها الشعوب، ولعلنا نتذكر أن الصفحة الأولى من أول أعداد (الأهرام) عندما صدر من الإسكندرية بعد منتصف القرن التاسع عشر لاتزال وثيقة تتناقلها الأجيال، وتحرص على اقتنائها كل الشخصيات ذات الصلة بالفكر والثقافة والمعرفة، ويهمني هنا أن أرصد عدة ملاحظات؛ هي:
* أولاً: إن الصحافة قد ارتبطت بالهوية الوطنية والشخصية القومية، ف(الأهرام) تشير إلى مصر والعرب، و(دير شبيجل) تشير إلى الأمة الألمانية و(اللوموند) إلى الشعب الفرنسي، وقس على ذلك معظم النماذج التي تربط بين الصحافة ودولها، وبذلك لعبت الصحافة الورقية دوراً محورياً في الحروب والمشكلات والأزمات؛ جعلها بحق قاطرة الرأي العام، وصانعة الموقف الوطني في أحلك الظروف وأصعب الأوقات.
* ثانياً: أدعي أن الصحافة المعاصرة قد سبقت صانعي القرار السياسي وأصحاب الرأي، حتى أصبح لها القيادة؛ بسبب تمهيدها للرأي العام، وقدرتها على حشد الجماهير، ووضع القضايا المتعددة في إطار شعبي كاسح؛ لذلك سعت الحكومات المختلفة إلى التدخل في شؤون الصحافة، وتحجيم دورها؛ بحجة التنظيم وإدعاء لعبها لدور قد لا يكون على هوى بعض الحكومات، وبذلك وصلت درجة الشطط إلى حد تأميم بعض الصحف ومصادرة بعضها الآخر أو الإغلاق المؤقت لعدد منها؛ ولذلك فإن هناك ضحايا حقيقين؛ بل وشهداء معروفين للصحافة؛ حيث إن صاحبة الجلالة ليست مهنة سهلة أو نزهة يسيرة؛ بل قد تكون واحدة من أصعب المهن على الإطلاق؛ لأن غول المطابع يلتهم الكلمات، ولابد أن تسعفه صفحات دون إبطاء أو تردد، فالقارئ ينتظر، والأخبار تتوالى، والتحليلات تتزاحم، والمهنة لا ترحم.
* ثالثاً: إن التقدم في تكنولوجيا المعلومات لا يصيب الصحف وحدها؛ بل إن تأثيره على عالم الكتاب قد يكون أشد شراسة وأقوى تأثيراً والذين قالوا عبر القرون (إن خير جليس في الزمان كتاب) عليهم أن يراجعوا الآن هل هو الكتاب الورقي؟ أم الكتاب الإلكتروني؟ ويجب أن أعترف أن هناك متحمسين للصحافة الإلكترونية خصوصاً بين الأجيال الجديدة التي تعودت في سنواتها الأخيرة أن تقلب الصفحات الإلكترونية فتقرأ الكتب والصحف وتتابع الأخبار من دون عناء.
* رابعاً: إن تطور الصحافة؛ بل وتطور الكتابة عموماً هو جزء لا يتجزأ من التحولات الكبرى في العالم والأنماط الجديدة التي طرأت على الحياة، ولقد توجس البعض خيفة من أوراق الصحف مع ظهور وباء كورونا، وشاع بينهم خطأً أنها يمكن أن تكون مصدراً للعدوى، حتى أنني أعرف كثيراً من الأصدقاء قد أحجموا عن شراء الصحف، واكتفوا بالقراءة الإلكترونية، ولم يكن ذلك تصرفاً عقلانياً، ولكنه جاء تحت تأثير الذعر الشديد من ذلك الوباء اللعين وسرعة انتشاره وغموض أسبابه، والتفسير التآمري في نشأته، والصراع الدولي سياسياً واقتصادياً وثقافياً حول الخلاف القائم حالياً بين الصين والولايات المتحدة والذي نتوقع له أن يزداد شراسة ووضوحاً في العقود القادمة، واضعين في الاعتبار أن روسيا الاتحادية حليف تاريخي للصين لا يختلف معها إلا ظاهرياً، ولكن الجوار القومي الطويل جعل بينهما من أواصر الصلات ما يحول دون التأثيرات الوافدة في العلاقات الدولية المعاصرة.
* خامساً: إن الذي حدد المسار الحقيقي للصحافة الحديثة والتطور الهائل الذي طرأ عليها هو نفسه الذي فتح الأبواب أمام الصحافة الإلكترونية لكي تكون بديلاً لماضيها وامتداداً لها، لذلك فإننا نرى أن وراثة الأساليب الإلكترونية للكتابات الورقية هي تطور طبيعي للأشياء، ونتوقع ألا يقضي أحدهما على الآخر؛ بل يظلا على خط متوازٍ تحتل فيه الكتابة الإلكترونية المساحة الأكبر ولكن يبقى وجود الصحافة الورقية محتفظاً بجزء من مكانته على الرغم من كل الظروف.
لاحظنا من النقاط السابقة أن تراجع الصحافة الورقية هو نمط من أنماط التطور الطبيعي، وأننا لا نستطيع أن نوقف حركة التاريخ ومسار التطور، ولا شك أن الإنسانية قد واجهت منعطفات شبيهة يوم أن انتقلنا من الكتابة اليدوية الخالصة إلى استخدام الطباعة بعد اختراعها إيذاناً بالانتقال من مرحلة المخطوطات إلى مرحلة الكتب، ولن يستطيع جيل معين أن يوقف حركة التاريخ أو يعدل مسار التطور.. فمرحباً بالصحافة الإلكترونية على أوسع نطاق شريطة أن تبقى الصحافة الورقية ولو على نطاق أقل؛ لأنها تعد تعبيراً عن أجيال لا تزال ترتبط بها، وتتحمس لها، وتدافع عنها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"