دولة الرئيس: استقِلْ

03:02 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. نسيم الخوري

تركّزت السلطات في لبنان تاريخيّاً عبر ميثاقيّة استقلالية ممهورة بجعل مفتاح السلطات في يد رئيس الجمهورية. لكنّنا بقينا مطمورين بالجمر الجاهز تحت الرماد، وله شكلان: الغبن من قبل السنة، والحرمان من قبل الشيعة والطوائف الأخرى، مقابل مركزية مارونيّة حتّى الانفجار الوطني 1975 متعدّد الهويّات.
حلّ اتفاق الطائف مركزية السلطة بجعل الحكم بين الجميع فوق طاولة مجلس الوزراء بالتوافق، والإجماع بين ممثّلي الطوائف، والأحزاب قبل أي قرار، وإلاّ بالتصويت الذي ولّد تبادلية الغبن، والحرمان. واستمرّ نصب طاولة الحوار بما تجاوز، وعلا فوق كلّ السلطات. هكذا وقع رئيس مجلس الوزراء السنّي بين علّيقة السلطة القائمة لدى الماروني تاريخياً، وبين حلّ عقدة الغبن التاريخية لدى السنّي، وبين العقدة القادمة والقويّة اليوم لدى الشيعة، بما تجاوز المشاركة الشكليّة بمقاليد السلطة. وخلال حكم الشهيد رفيق الحريري الذي ستنطق المحكمة الدوليّة كلمتها الباهتة باغتياله في قلب بيروت مدينة المستقبل في 7 أغسطس/ آب، وصولاً إلى حكومات ولده سعد الحريري، كان ردم الفجوات بين الأطراف نفسها سهلاً لأسباب لا يمكن تعدادها، لكنّها مخزن لأمراض الانجذاب العارم للسلطة والسلاطين الجدد.
وأستعيد بوضوح توصيف مسؤول سوري كان موكولة إليه رعاية ملف السلطات في لبنان: أتعرفون كيف «يكربج» موتور السيارة فتجمد في أرضها؟ هذا هو وضع لبنان في مسألة استقلالية السلطات، وتعاونها، وتوازنها في لبنان التي وردت في اتفاق الطائف الذي أصبح دستوراً للبلاد، ومثلها لا مضمون لكلّ هذا «العلك» السياسي الذي يملأ الأجواء بالحريّة، والديمقراطيّة، والسيادة، والاستقلاليّة بصفتها كلمات مستوردة لا حيّز لها في واقع لبنان واللبنانيين، لا اليوم، ولا غداً. كان ذلك في زمن «الترويكا» الثلاثيّة السلطوية الممثلة في الرؤساء الياس الهراوي، ورفيق الحريري، ونبيه بري. أي عطلٍ في محرّك السلطات في لبنان كان يمكن إصلاحه بمختلف الأساليب المتاحة. واستمرّ هذا الوضع من عام 1989 إلى عام 2005 بعد اغتيال الحريري، وخروج السوري من لبنان.
كانت تقوى الإشكاليات، وتحلّ، عبر ثلاثة رؤساء لا رئيس واحد. ولم يمت السؤالان الأبديّان: كيف يحكم بلد بثلاثة رؤوس بعدما فشل الحكم برأس واحد؟ يقابله سؤال آخر: كيف يحكم البلد برأس واحد بعدما فشلت الرؤوس الثلاثة في حكمه؟
وفي احتمالات الجواب بأن في الدستور الجديد نصّوصاً وقوانين هي دون اتفاق المحاور: المارونية والسنية والشيعية والدرزية والأرثوذكسيّة وغيرها، وهو ما أعاده إلى مثلث متساوي الأضلاع تشوّه مع التطبيق والتقاسمات المذهبية فصار مربعاً، ومكعّباً، ودائرة مظلمة مشوّهة يتوزّع فيها النواب والوزراء والمديرون والمسؤولون موظّفين، كأنّهم جوائز ترضية.
ماذا يحصل اليوم؟ وقعت «الجمهورية» في قاعٍ أشدّ عمقاً لا قرار فيه، سواء في توزيع السلطات وقراراتها وآليات تنفيذها بين عشرات الرؤوس تنبعث منها روائح التقسيم والفيدرالية والحياد تطويراً للنأي بالنفس، وكلّنا سيحتفل، أو يتذكّر مئويّة لبنانهم الكبير في أوّل سبتمبر/ أيلول المقبل.
كيف؟ رئيس الحكومة أستاذ جامعي حسن لربّما تزعجه وحيداً شهرته: دياب. لا تعداد دولة الرئيس لقطعان «الذئاب» السارحة فوق أرض لبنان والمسؤول الأكاديمي النظيف قد تخفى عليه المقالب وترمى فوق رأسه المسؤوليات كلّها. لا لوم عليه، وهو قد يكابد الغبن والقهر كما الفشل، والنجاح، وقد لا يمكنه من إحاقة أحجام المآسي، ولن أكتب أنّه ممّن يغريه كونه رئيساً لمجلس الوزراء إذ لا يرضي طائفته الكبيرة، ولا الطوائف الأخرى التاريخية، ولا الأحزاب ولا العديد من الوزراء ولا أحد يساعد في استعادة الثقة بلبنان كأنّه يشكو بما الشعب منه ملتاع، ومكوي.
وإنّني إذ أتذكّر إزار الخليفة عمر بن الخطّاب، أتصوّر أنّ أكثر مستشاريه وداعميه لم يخبروه حقيقة ما تشيّعه وسائل الإعلام المحليّة والإقليمية والعالميّة عبر نشرات أخبارها من أنّ عشرات آلاف الأطفال اللبنانيين مهدّدون بالموت جوعاً قبل نهاية هذا العام.
حضرة الرئيس: بالعربيّة الفصحى أعتذر باسم الأكاديمية التي وضع لبنتها الأولى إفلاطون في بناء جمهوريته، يستحيل عليك محو الدمغات المتراكمة فوق هويّات السلطات في لبنان من فرنسا، إلى الطائف، فدمشق، فالدوحة، ثمّ إيران، والعراق، وأمريكا، وروسيا، وتركيا وبريطانيا، وألمانيا، وربّما «إسرائيل» كي لا أعدّد دول العالم.. أين تقع جمهورية لبنان؟
لو كنت مكانك، أبواب الجمهورية مشرّعة لا تقفلها، بل استقل، طالباتنا، وطلاّبنا في الساحات، وكلّنا بالانتظار.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"