حكيم قريش، جاوزته الخلافة فاهتم بترجمة الفلسفة اليونانية وعلوم الغرب، وأسبغ رعايته على المشتغلين بها، واتجه إلى دراسة الكيمياء، واهتم بها اهتماماً كبيراً، بعد أن كانت محاطة بالخرافات، وجلب لها الكثير من الكتب وأشرف على ترجمتها؛ فكان من أوائل من درسوا الكيمياء من المسلمين، وألف فيها رسائل، ويرجع إليه الكثير من الفضل في ما توصل إليه المسلمون من تطور في هذا المجال، ولولاه لتأخر نقل الكيمياء إلى العربية.
عده الدكتور عبد المتعال الصعيدي في كتابه «المجددون في الإسلام» من أوائل المجددين، لأنه لم يجد من أمر الملك ما يشغله أو يصرفه عن التوسع في العلوم فسبق المسلمين جميعاً إلى ناحية من التجديد، ولفتهم إلى العناية بعلوم الحكمة (الفلسفة) التي سبقتهم الأمم القديمة إليها، ولتقوم حضارتهم على العلم والدين.
هو خالد بن يزيد بن معاوية (48 -85 ه الموافق668-704م)، الأمير القرشي الأموي الدمشقي بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، حفيد الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان وابن الخليفة الثاني يزيد بن معاوية، وأخو الخليفة معاوية الذي تنازل عن الخلافة بعد أن وليها لثلاثة أشهر. وأمه هي أم هاشم فأخته بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.
مكسب للعلم
بعد أن تنازل أخوه معاوية بن يزيد عن الخلافة انقسم أنصار بني أمية لفريقين: فريق يميل لبيعة خالد بن يزيد بن معاوية، وفريق آخر يميل لبيعة مروان بن الحكم، وبعد مناقشات انعقدت في مؤتمر الجابية تغلب الفريق الذي يؤيد مروان، وكانت حجتهم أن خالد بن يزيد مازال صغيراً، وليس نداً لعبد الله بن الزبير الأكبر سناً، والذي نازع بني أمية في تولي الخلافة حينها، فقالوا لمعارضيهم: «لا والله لا تأتينا العرب بشيخ -يقصدون ابن الزبير- ونأتيهم بصبي»، فاتفقوا على أن تكون البيعة لمروان، ثم من بعده لخالد بن يزيد.
حين استقر الأمر لمروان بن الحكم في مصر والشام، بايع من بعده ولده عبد الملك ثم من بعده ولده عبد العزيز، وترك البيعة لخالد بن يزيد بن معاوية، لأنه كان لا يراه أهلاً للخلافة لحداثة سنّه، ولما آلت الخلافة إلى عبد الملك ابن مروان سنة 65ه قرب إليه خالد بن يزيد وجعله من مستشاريه، وكان خالد هو الذي أشار على عبد الملك أن يحرم دنانير الروم وأن يضرب للناس دنانير إسلامية.
ابتعد خالد بن يزيد عن السياسة بمعناها المباشر، وتفرغ لطلب العلم، وخصوصاً علم الكيمياء، فأصبح من أشهر العلماء العرب، ونال ثناء العلماء وتقديرهم؛ لأخلاقه الراقية، وعلمه الغزير، ولإسهاماته العظيمة في علم الكيمياء؛ فهو الرائد الأول لهذا العلم عند المسلمين.
شهادة منصفة
ولعل أقدم نص عن اهتمام خالد بن يزيد بالكيمياء والطب هو الذي ورد في كتاب «البيان والتبيين» للجاحظ الذي يذكر أن خالداً كان أول من ترجمت له كتب النجوم والطب والكيمياء، ويقول: «كان خالد بن يزيد بن معاوية خطيباً شاعراً، وفصيحاً جامعاً، وجيد الرأْي، كثير الأدب، وكان أول من أعطى التراجمة والفلاسفة، وقرب أهل الحكمة، ورؤساء كل صناعة، وترجم كتب النجوم والطب والكيمياء والحروب والآداب والآلات والصناعات».
وشهادة الجاحظ في حق ابن يزيد تؤكد أنه أنفق من ماله على العلم، كأنها شهادة للرد على البعض ممن ادّعوْا أن خالد بن يزيد تعلم الكيمياء بحثاً عن الأموال التي افتقدها عندما تنازل عن الخلافة، ومن ناحيته يذكر ابن النديم في «الفهرست» أن خالد بن يزيد كان فاضلاً في نفسه، له همة، وكانت له محبة للعلوم فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونان كانوا ينزلون مصر ويجيدون العربية وأمرهم بنقل الكتب من اللسان اليوناني والقبطي إلى اللسان العربي، وكان هذا أول نقل في الإسلام من لغة إلى لغة في عصر الدولة الأموية، وفي ذلك تأكيد على سماحة العقلية الإسلامية، وتعايشها مع غيرها من الحضارات الأخرى، فلم يؤثر عن الحضارة الإسلامية أنها هدمت حضارة، أو محتْ تراثاً، ولكنها استفادت من التراث الإنساني، ونقلته بأمانة وإتقان، فأفادت البشرية جميعاً.
رسائل في الكيمياء
نال خالد بن يزيد إعجاب الكثير من المؤرخين؛ ويتحدث عنه العالم الكبير ابن كثير فيقول: «كان خالد بن يزيد أعلم قريش بفنون العلم، وله يد طولى في الطب، وكلام كثير في الكيمياء، وكان خالد فصيحاً بليغاً شاعراً منطقياً»، وقال عنه الذهبي في «سير أعلام النبلاء»: «وكان من نبلاء الرجال، ذا علم وفضل وصوم وسؤدد»، وقال ابن خلكان في «وفيات الأعيان»: «كان من أعلم قريش بفنون العلم، وكان بصيراً بهذين العلمين: الطب والكيمياء متقناً لهما، وله نظم رائق (شعر جيد)»، ويذكر ابن خلكان أن الأمير خالد بن يزيد أخذ صنعة الكيمياء من رجل من الرهبان يقال له مريانس التقى به في نواحي القدس واستقدمه إلى دمشق ليتعلم منه وأن لخالد في علم الصنعة ثلاث رسائل تضمنت إحداها ما جرى له مع مريانس وطريقة تعلمه، والرموز التي أشار إليها، وأن له أشعاراً كثيرة.
ومن الثابت أن خالد بن يزيد استحضر من الأقباط المتحدثين بالعربية مثل مريانوس، وشمعون، وإصطفان الإسكندري، وطلب منهم نقل علوم الصنعة إلى العربية، ويورد النديم رواية عن محمد بن إسحاق، أن خالداً خطر بباله حب الصنعة (الكيمياء) فتتلمذ على يد الراهب الرومي مريانوس وتعلم منه صنعة الطب والكيمياء، ونجح فيها وله في ذلك ثلاثة كتب؛ هي: (السر البديع في فك الرمز المنيع)، و(فردوس الحكمة في علم الكيمياء)، و(مقالتا مريانوس الراهب)، ذكر فيه ما كان بينه وبين مريانوس، وكيف تعلم منه الرموز التي أشار إليها، وأنه رأى من كتبه، كتاب «الحرارات» وكتاب «الصحيفة الكبير» وكتاب «الصحيفة الصغير» وكتاب «وصية إلى ابنه في الصنعة».
نقلة كبيرة
تعددت مؤلفات خالد بن يزيد في مجال الكيمياء وتعتبر نقلة كبيرة للعلوم عند العرب، خاصة إذا عرفنا أنه لم تكن توجد في تلك الفترة كتب تتحدث عن الكيمياء باللغة العربية، وكان علم الكيمياء من العلوم التي تحيطها الخرافات وتسيطر عليها.
ومع أن لخالد بن يزيد باعاً كبيراً في الفلسفة والكيمياء، إلا أن مؤلفاته لم تقتصر على هذين المجالين فقط، بل كانت له مؤلفات عديدة منها: ديوان النجوم، وهو أبيات شعرية في التنجيم، وذكر بروكلمان أن نسخة منه موجودة بمكتبة كوبرالي، وثانية بمكتبة جار الله في إسطنبول، كما ذكر (كرنكو) أن نسخة منه كانت موجودة بمكتبة أنستاس الكرملي ببغداد.
كان للجهود التي بذلها خالد بن يزيد الذي توفي في دمشق سنة (09ه الموافق 807م) الدور الأكبر في ترسيخ الكيمياء كعلم بدلاً عن الخيمياء واستفاد منها في الصيدلة، وهو أول من استعمل علم الكيمياء لصناعة بعض الأدوية لخدمة الطب، فكان ما قدمه خالد بن يزيد الأساس الذي اعتمد عليه علماء المسلمين فيما بعد.