خالد بن‮ ‬يزيد.. خسر الخلافة وخلّدته الريادة العلمية

قامات إسلامية
02:24 صباحا
قراءة 5 دقائق
بقلم: محمد حماد

حكيم قريش،‮ ‬جاوزته الخلافة فاهتم بترجمة الفلسفة اليونانية وعلوم الغرب،‮ ‬وأسبغ‮ ‬رعايته على المشتغلين بها،‮ ‬واتجه إلى دراسة الكيمياء،‮ ‬واهتم بها اهتماماً كبيراً،‮ ‬بعد أن كانت محاطة بالخرافات،‮ ‬وجلب لها الكثير من الكتب وأشرف على ترجمتها؛ فكان من أوائل من درسوا الكيمياء من المسلمين،‮ ‬وألف فيها رسائل،‮ ‬ويرجع إليه الكثير من الفضل في ما توصل إليه المسلمون من تطور في‮ ‬هذا المجال‮، ‬ولولاه لتأخر نقل الكيمياء إلى العربية.‬
عده الدكتور عبد المتعال الصعيدي‮ ‬في‮ ‬كتابه‮ «‬المجددون في‮ ‬الإسلام‮» ‬من أوائل المجددين،‮ ‬لأنه لم‮ ‬يجد من أمر الملك ما‮ ‬يشغله أو‮ ‬يصرفه عن التوسع في‮ ‬العلوم فسبق المسلمين جميعاً إلى ناحية من التجديد، ولفتهم إلى العناية بعلوم الحكمة‮ (‬الفلسفة‮) ‬التي‮ ‬سبقتهم الأمم القديمة إليها،‮ ‬ولتقوم حضارتهم على العلم والدين‮.‬
هو خالد بن‮ ‬يزيد بن معاوية (48 -85 ه الموافق668-704م‮)‬،‮ ‬الأمير القرشي‮ ‬الأموي‮ ‬الدمشقي‮ ‬بن‮ ‬يزيد بن معاوية بن أبي‮ ‬سفيان،‮ ‬حفيد الخليفة الأموي‮ ‬الأول معاوية بن أبي‮ ‬سفيان وابن الخليفة الثاني‮ ‬يزيد بن معاوية،‮ ‬وأخو الخليفة معاوية الذي‮ ‬تنازل عن الخلافة بعد أن وليها لثلاثة أشهر. ‬وأمه هي‮ ‬أم هاشم‮ ‬فأخته بنت أبي‮ ‬هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.


مكسب للعلم


بعد أن تنازل أخوه معاوية بن‮ ‬يزيد عن الخلافة انقسم أنصار بني‮ ‬أمية لفريقين‮: ‬فريق‮ ‬يميل لبيعة خالد بن‮ ‬يزيد بن معاوية،‮ ‬وفريق آخر‮ ‬يميل لبيعة مروان بن الحكم،‮ ‬وبعد مناقشات انعقدت في‮ ‬مؤتمر الجابية تغلب الفريق الذي‮ ‬يؤيد مروان،‮ ‬وكانت حجتهم أن خالد بن‮ ‬يزيد مازال صغيراً،‮ ‬وليس نداً لعبد الله بن الزبير الأكبر سناً،‮ ‬والذي‮ ‬نازع بني‮ ‬أمية في‮ ‬تولي‮ ‬الخلافة حينها،‮ ‬فقالوا لمعارضيهم‮: «‬لا والله لا تأتينا العرب بشيخ‮ -‬يقصدون ابن الزبير‮- ‬ونأتيهم بصبي‮»‬،‮ ‬فاتفقوا على أن تكون البيعة لمروان،‮ ‬ثم من بعده لخالد بن‮ ‬يزيد‮.‬
حين استقر الأمر لمروان بن الحكم في‮ ‬مصر والشام،‮ ‬بايع من بعده ولده عبد الملك ثم من بعده ولده عبد العزيز،‮ ‬وترك البيعة لخالد بن‮ ‬يزيد بن معاوية،‮ ‬لأنه كان لا‮ ‬يراه أهلاً للخلافة لحداثة سنّه،‮ ‬ولما آلت الخلافة إلى عبد الملك ابن مروان سنة ‮ ‬65ه قرب إليه خالد بن‮ ‬يزيد وجعله من مستشاريه،‮ ‬وكان خالد هو الذي‮ ‬أشار على عبد الملك أن‮ ‬يحرم دنانير الروم وأن‮ ‬يضرب للناس دنانير إسلامية‮.‬
ابتعد خالد بن‮ ‬يزيد عن السياسة بمعناها المباشر،‮ ‬وتفرغ‮ ‬لطلب العلم،‮ ‬وخصوصاً علم الكيمياء،‮ ‬فأصبح من أشهر العلماء العرب،‮ ‬ونال ثناء العلماء وتقديرهم؛ لأخلاقه الراقية،‮ ‬وعلمه الغزير،‮ ‬ولإسهاماته العظيمة في‮ ‬علم الكيمياء؛ فهو الرائد الأول لهذا العلم عند المسلمين.‮


شهادة منصفة


ولعل أقدم نص عن اهتمام خالد بن‮ ‬يزيد بالكيمياء والطب هو الذي‮ ورد في‮ ‬كتاب‮ ‬«البيان والتبيين» للجاحظ الذي‮ ‬يذكر أن خالداً كان أول من ترجمت له كتب النجوم والطب والكيمياء،‮ ‬ويقول‮: «‬كان خالد بن‮ ‬يزيد بن معاوية خطيباً شاعراً،‮ ‬وفصيحاً جامعاً،‮ ‬وجيد الرأْي،‮ ‬كثير الأدب،‮ ‬وكان أول من أعطى التراجمة والفلاسفة،‮ ‬وقرب أهل الحكمة،‮ ‬ورؤساء كل صناعة،‮ ‬وترجم كتب النجوم والطب والكيمياء والحروب والآداب والآلات والصناعات‮».‬
وشهادة الجاحظ في‮ ‬حق ابن‮ ‬يزيد تؤكد أنه أنفق من ماله على العلم،‮ ‬كأنها شهادة للرد على البعض ممن ادّعوْا أن خالد بن‮ ‬يزيد تعلم الكيمياء بحثاً عن الأموال التي‮ ‬افتقدها عندما تنازل عن الخلافة،‮ ‬ومن ناحيته‮ ‬يذكر ابن النديم في‮ ‬«الفهرست» أن خالد بن‮ ‬يزيد كان فاضلاً في‮ ‬نفسه،‮ ‬له همة،‮ ‬وكانت له محبة للعلوم فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونان كانوا ينزلون مصر ويجيدون العربية وأمرهم بنقل الكتب من اللسان اليوناني‮ ‬والقبطي‮ ‬إلى اللسان العربي،‮ ‬وكان هذا أول نقل في‮ ‬الإسلام من لغة إلى لغة في‮ ‬عصر الدولة الأموية،‮ ‬وفي‮ ‬ذلك تأكيد على سماحة العقلية الإسلامية،‮ ‬وتعايشها مع‮ ‬غيرها من الحضارات الأخرى،‮ ‬فلم‮ ‬يؤثر عن الحضارة الإسلامية أنها هدمت حضارة،‮ ‬أو محتْ‮ ‬تراثاً،‮ ‬ولكنها استفادت من التراث الإنساني،‮ ‬ونقلته بأمانة وإتقان،‮ ‬فأفادت البشرية جميعا‮ً.‬


رسائل في الكيمياء


نال خالد بن‮ ‬يزيد إعجاب الكثير من المؤرخين؛‮ و‬يتحدث عنه العالم الكبير ابن كثير فيقول‮: «‬كان خالد بن‮ ‬يزيد أعلم قريش بفنون العلم،‮ ‬وله‮ ‬يد طولى في‮ ‬الطب،‮ ‬وكلام كثير في‮ ‬الكيمياء،‮ ‬وكان خالد فصيحاً بليغاً شاعراً منطقيا‮ً»‬،‮ ‬وقال عنه الذهبي‮ ‬في‮ «‬سير أعلام النبلاء»‮: «‬وكان من نبلاء الرجال،‮ ‬ذا علم وفضل وصوم وسؤدد‮»‬،‮ ‬وقال ابن خلكان في‮ ‬«وفيات الأعيان»‮: ‬«كان من أعلم قريش بفنون العلم،‮ ‬وكان بصيراً بهذين العلمين‮: ‬الطب والكيمياء متقناً لهما،‮ ‬وله نظم رائق‮ (‬شعر جيد‮)‬»، ‬ويذكر ابن خلكان أن الأمير خالد بن‮ ‬يزيد أخذ صنعة الكيمياء من رجل من الرهبان‮ ‬يقال له مريانس التقى به في‮ ‬نواحي‮ ‬القدس واستقدمه إلى دمشق ليتعلم منه وأن لخالد في‮ ‬علم الصنعة ثلاث رسائل تضمنت إحداها ما جرى له مع مريانس وطريقة تعلمه،‮ ‬والرموز التي‮ ‬أشار إليها،‮ ‬وأن له أشعاراً كثيرة‮.‬
ومن الثابت أن خالد بن‮ ‬يزيد استحضر من الأقباط المتحدثين بالعربية مثل مريانوس،‮ ‬وشمعون،‮ ‬وإصطفان الإسكندري،‮ ‬وطلب منهم نقل علوم الصنعة إلى العربية،‮ ‬ويورد النديم رواية عن محمد بن إسحاق،‮ ‬أن خالداً خطر بباله حب الصنعة‮ (‬الكيمياء‮) ‬فتتلمذ على‮ ‬يد الراهب الرومي‮ ‬مريانوس وتعلم منه صنعة الطب والكيمياء،‮ ‬ونجح فيها وله في‮ ‬ذلك ثلاثة كتب؛ هي‮: (‬السر البديع في‮ ‬فك الرمز المنيع‮)‬،‮ ‬و(فردوس الحكمة في‮ ‬علم الكيمياء‮)‬،‮ ‬و(مقالتا مريانوس الراهب‮)‬،‮ ‬ذكر فيه ما كان بينه وبين مريانوس،‮ ‬وكيف تعلم منه الرموز التي‮ ‬أشار إليها،‮ ‬وأنه رأى من كتبه،‮ ‬كتاب‮ «‬الحرارات‮» ‬وكتاب‮ «‬الصحيفة الكبير‮» ‬وكتاب‮ «‬الصحيفة الصغير‮» ‬وكتاب‮ «‬وصية إلى ابنه في‮ ‬الصنعة‮».‬


نقلة كبيرة


تعددت مؤلفات خالد بن‮ ‬يزيد في‮ ‬مجال الكيمياء وتعتبر‮ نقلة كبيرة للعلوم عند العرب،‮ ‬خاصة إذا عرفنا أنه لم تكن توجد في‮ تلك الفترة كتب تتحدث عن الكيمياء باللغة العربية،‮ ‬وكان علم الكيمياء من العلوم التي‮ ‬تحيطها الخرافات وتسيطر عليها‮.‬
ومع أن لخالد بن‮ ‬يزيد باعاً كبيراً في‮ ‬الفلسفة والكيمياء،‮ ‬إلا أن مؤلفاته لم تقتصر على هذين المجالين فقط،‮ ‬بل كانت له مؤلفات عديدة منها‮: ‬ديوان النجوم،‮ ‬وهو أبيات شعرية في‮ ‬التنجيم،‮ ‬وذكر بروكلمان أن نسخة منه موجودة بمكتبة كوبرالي،‮ ‬وثانية بمكتبة جار الله في‮ ‬إسطنبول،‮ ‬كما ذكر‮ (‬كرنكو‮) ‬أن نسخة منه كانت موجودة بمكتبة أنستاس الكرملي‮ ‬ببغداد‮.‬
كان للجهود التي‮ ‬بذلها خالد بن‮ ‬يزيد الذي‮ ‬توفي‮ ‬في‮ ‬دمشق سنة‮ (09ه الموافق 807م) ‬ الدور الأكبر في‮ ‬ترسيخ الكيمياء كعلم بدلاً عن الخيمياء واستفاد منها في‮ ‬الصيدلة،‮ ‬وهو أول من استعمل علم الكيمياء لصناعة بعض الأدوية لخدمة الطب،‮ ‬فكان ما قدمه خالد بن‮ ‬يزيد الأساس الذي‮ ‬اعتمد عليه علماء المسلمين فيما بعد‮.‬

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"