الأبعاد الاستراتيجية للثورة الرقمية

03:41 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

اكتشف العالم مرة أخرى مع انتشار الجائحة أنه صار أكثر تبعية من أي وقت مضى للتقنية، ولكل ما يرتبط بالثورة الرقمية والمعلوماتية؛ إذ إنه وفي اللحظة التي تراجع فيها الاقتصاد العالمي بشكل غير مسبوق مع خضوع أكثر من 3 مليارات ونصف المليار من البشر للحجر الصحي والعزل المنزلي، فإن شركات التقنية والإنترنت استطاعت أن تجسّد بشكل لافت مقولة: «مصائب قوم عند قوم فوائد»؛ بعد أن حققت أرباحاً قياسية خلال أشهر قليلة؛ نتيجة لحاجة الأفراد للحصول على التقنية؛ لتعويض التواصل الاجتماعي المباشر بالتواصل الافتراضي؛ من خلال الخدمات التي تقدمها الشركات الكبرى؛ مثل: جوجل، أبل، فايسبوك وأمازون، والتي ساعدت قسماً كبيراً من سكان الكرة الأرضية على تحمّل إجراءات العزل التي اتخذتها أغلب الحكومات.
ويشير الباحث فردريك دوزي إلى أن الثورة الرقمية الناجمة عن الاعتماد المكثف على تكنولوجيا المعلومات والارتباط الشبكي المتبادل عبر العالم لأنظمة التواصل والمعلوماتية، عرفت تسارعاً مهولاً خلال العقدين الأخيرين؛ وأدى ذلك إلى إحداث انقلاب كبير على مستوى الممارسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمعات البشرية، وهو انقلاب يبدو أكثر أهمية من القطائع التي أحدثها ابتكار الكتابة وتقنيات الطباعة في مطلع عصر النهضة؛ وذلك بفضل تحويل المعارف والأنشطة البشرية إلى معطيات رقمية، يتسع مداها وقوة تأثيرها بشكل مدهش؛ بفضل الاستثمار المكثف للبيانات الضخمة.
وتدفع كل هذه التطورات التكنولوجية الشركات والمؤسسات والدول إلى إنجاز تحوّلها الرقمي في عالم معقد ومفتوح أمام كل الاحتمالات ومقبل على أشكال وصيغ مواجهات غير تقليدية، وبالتالي فإن القدرة على جمع وتخزين وربط وتوظيف المعطيات؛ يمثل في المرحلة الراهنة الأساس الذي تنبني عليه الابتكارات التي هي كما يضيف دوزي المحرِّك الأساسي للتنمية الاقتصادية ولآليات ممارسة السلطة، وتطرح من ثمة رهانات متعددة على المستوى الأخلاقي والديمقراطي وكل ما يتصل بذلك من مشروعية سياسية في فضاء عام بات يمارس فيه الواقع الافتراضي تأثيراً حاسماً في تشكيل وعي الأفراد والمجتمعات على اختلاف الثقافات.
كما تسهم هذه التحولات على مستوى المنظومات التقنية في إحداث تغييرات في البيئة الاستراتيجية العالمية، وفي أسلوب ونمط قيام القوى الكبرى ببناء قوتها وتوجيه دفة التنافس والمواجهة فيما بينها، ومن ثمة فهي تغيّر بشكل لافت تمثلات ورؤى هذه القوى لطبيعة التحديات والتهديدات التي تواجهها ولتصورها المتعلق بأمنها القومي في سياق محيط دولي رقمي يتميّز بهيمنة آليات الربط الشبكي المتشارك والتفاعل المشترك والتبعية المتبادلة المتعددة التي لا يمكن لأي طرف أن يدّعي تحكمه وسيطرته على مجرياتها بشكل كامل، في سياق عام قائم على صراع الإرادات بين الشعوب والحضارات المختلفة؛ الأمر الذي يضع حكومات الدول أمام خيارات تكنولوجية واستراتيجية وأخلاقية شديدة التعقيد بحسب السياقات المتعلقة بالمجالات الأمنية والاقتصادية والسياسية على المستويين الداخلي والخارجي.
ومن الواضح أن كل هذه الأحداث والتطورات المتعلقة بالثورة الرقمية حملت معها بحسب الباحث دوزي سلسلة من المفاجآت الاستراتيجية المرتبطة، بالتعقيد التقني للهجمات التي تحدث في الفضاء السبيراني الذي تقوم به الدول والمجموعات المتصلة بها من جهة، وبتعدد الأهداف والفاعلين في المجال الرقمي وبأنماط الاشتغال والآثار السلبية التي تمثلها بالنسبة لاستقرار المجتمعات من جهة أخرى. وتصدق هذه الملاحظات بشكل خاص على العشرية الأخيرة التي بدأ يشكل فيها الحقل المعلوماتي أولوية استراتيجية بالنسبة للدول والمجموعات أو ما يُسمى بالدول الافتراضية والتنظيمات الإرهابية التي تمارس الدعاية والتضليل وتوجيه المعلومة على مستوى الشبكة العنكبوتية؛ لتحقيق أجنداتها الإجرامية.
ويخلص الكثير من الباحثين إلى أننا انتقلنا في أقل من 20 سنة من الفضاء السبيراني إلى فضاء البيانات بكل ما يفرضه هذا الفضاء الأخير من تحديات استراتيجية وجيوسياسية تنقل الثورة الرقمية من مجال التنافس العلمي إلى سياق المواجهة التكنولوجية التي تصبح فيها التقنية مسرحاً للصراع والسباق المحكوم بين القوى الكبرى ومجالاً عسكرياً جديداً؛ يحظى باهتمام يتجاوز ما تمثله الأرض والبحار والفضاء من أهمية، من منطلق أن فضاء المعلومات والبيانات الضخمة؛ يفرض تأسيس نظام دولي جديد قائم على أسس جديدة، وعلى فهم مغاير لحدود وسيادة الدول.
ويمكن القول في الأخير إن الحكم على العلاقات الدولية وعلى مبادئ السلم والاستقرار الدوليين، لا يجب أن يكون مرتبطاً فقط بالمفاوضات بين قطبي الحرب الباردة المتعلقة بالتحكم بسباق التسلح، وبتخفيض الترسانة النووية ومنظومات الصواريخ، ولكن أيضاً بجعل فضاء البيانات الرقمية أكثر أمناً واستقراراً؛ لأن التحدي الذي تواجهه البشرية الآن إضافة إلى أبعاده الاقتصادية والصحية والبيئية، هو وثيق الصلة بالثورة الرقمية وبالتنافس المتعدّد الأوجه؛ من أجل الهيمنة على الفضاءات الافتراضية، والانتصار في الحروب القائمة على التحكم في الذكاء الاصطناعي الذي يرى إيلون ماسك أنه بات يمثل مصدر قلق بالنسبة لمستقبل البشرية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"