عالم الدين سيّافاً.. تركيا نموذجاً

03:43 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد نورالدين

تحوّل تحويل آيا صوفيا إلى جامع إلى حدث بحد ذاته. تكاثرت الدلالات في الحدث. تبرير تحويله إلى جامع بأنه كان جامعاً، قبل اعتباره عام 1934 متحفاً، لا يأخذ في الاعتبار أصل الحدث أي أن آيا صوفيا كان في الأساس كنيسة تعكس هيبة الدولة البيزنطية. وعندما استولى محمد الفاتح على القسطنطينية بالسيف عام 1453 أطلق جنوده يعيثون نهباً واغتصاباً وتخريباً في المدينة لثلاثة أيام بإجماع كل الكتابات التاريخية، مع فارق أن الفاتح أمر الجنود بعد يومين بوقف أفعالهم. لكن ما حصل قد حصل وانتقل الفاتح إلى الخطوة الثانية وهي تحويل الكنيسة المهيبة إلى جامع. وهنا قد تختلف بعض الآراء الفقهية في جواز ذلك في حالات معينة. لكن الأساس أن العهدة العمرية التي أعطاها الخليفة عمر بن الخطاب للمسيحيين في القدس هي التي تنسجم مع روح الدين الإسلامي عندما رفض الصلاة في كنيسة القيامة بل إلى جانبها. وشتان ما بين موقف الفاتح وموقف عمر بن الخطاب.
يتجاهل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التاريخ ويتجاوز الإرث التاريخي الإسلامي بفعلته تحويل الكنيسة إلى جامع. وإذا كان ليس مبرراً حتى في القرون الوسطى وأثناء الصراعات الدينية تحويل كنيسة إلى جامع، فكيف لمسؤول أن يقوم بذلك في عصر الحوار بين الأديان وعصر السعي (الزائف) لتكون تركيا جزءاً من الاتحاد الأوروبي (المسيحي)؟ وهل يجوز من أجل بضعة أصوات في الداخل أن يتلاعب أردوغان بالمشاعر والحساسيات الدينية وما ينتج عن ذلك من تعميق للكراهية بين الأديان والشعوب؟ فالحل الوحيد الجذري والصحيح كان يفترض في إعادة آيا صوفيا إلى وضعها قبل العام 1453، أي كنيسة، وأن يتم تصحيح الخطأ الأساسي الذي ارتكبه محمد الفاتح لا تكرار الخطأ. في الوقت نفسه فإن إبقاء آيا صوفيا متحفاً ليس حلاً لكن إذا كان لا بد من الاختيار بين أن تكون متحفاً أو تصبح جامعاً فإن الإبقاء على وضعها كمتحف يبقى أاهون الشرين.
لكن الشرّ كله كان يفوح من بين جدران آيا صوفيا ومن على منبرها.
منذ وقت طويل لم نشهد إمام جامع يلقي خطبته وهو يحمل السيف. تركيا «الحديثة»، التي حاول أتاتورك أن يدخلها تجربة التقدم والحداثة، أعادها حزب العدالة والتنمية قروناً إلى الوراء عندما أوعز إلى رئيس الشؤون الدينية (تعادل مرتبة شيخ الإسلام) الشيخ علي أرباش بإلقاء أول خطبة جمعة في 24 يوليو (تموز) الماضي وهو يحمل سيفاً بيده.
كان هذا مفاجئاً لرجل دين وفي مناسبة يشاهدها العالم كله. أعتقد أن ذلك كان مسيئاً جداً لصورة الإسلام وأعطى انطباعاً بأنه دين السيف. والسؤال: ما الذي يدفع برجل دين أن يظهر بهذه الصورة المستفزة والمتحدّية للجميع؟
خلال إلقاء أرباش خطبته كان أردوغان ومسؤولو حزب العدالة والتنمية في الصف الأمامي. في تركيا هناك اندماج كامل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية (كما بين كل السلطات ما يخالف أبسط قواعد الدولة الديمقراطية) كما لو أن تركيا ليست بلداً علمانياً (على ما ينص الدستور على الأقل). ولم يقتصر أرباش على حمل السيف في خطبة الجمعة الأولى بل كرر ذلك قبل أسبوع في خطبة عيد الأضحى من آيا صوفيا.
إذا كان فتح القسطنطينية قد تم بالسيف، فما الذي يعنيه أن يحمل «شيخ الإسلام» سيفاً خلال خطبتي الجمعة والأضحى إن لم يكن الهدف منه إعطاء الشرعية الدينية للحروب المفتوحة التي يخوضها ويقودها أردوغان من القوقاز إلى بحر إيجه ومن سوريا والعراق وليبيا إلى التهديد بمحاسبة الإمارات العربية المتحدة «في الزمان والمكان المناسبين»؟
يشهد التاريخ بصورة يومية على حروب وصراعات المصالح، لكن توسل الدين رافعة لحروب ومغامرات عثمانية وشخصية لا يخدم سوى تعميق الانقسام داخل العالم الإسلامي كما بين الإسلام والمسيحية. وهي أداة لا تليق بحاملها ومطلقها ولا بدين ولا بإنسان عاقل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

باحث ومؤرخ متخصص في الشؤون التركية .. أستاذ التاريخ واللغة التركية في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية.. له أكثر من 20 مؤلفاً وعدد من الأبحاث والمقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"