لبنان.. الريح والجرح

04:01 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد خليفة

بيروت المدينة التي وصفت بأنها مدينة النور والفن والجمال صارت رماداً، لتتحقق أغنية فيروز «من قلبي سلام، لبيروت وقَُبل للبحر والبيوت، لبيروت مجد من رماد»، فقد هوى صرح هذا المجد بسبب عبث العابثين، من خفافيش الظلام الذين يحركون الدمى من خلف ستار، فصار لبنان مرتعاً يعبثون به، ويلعبون على أرضه دسائسهم السياسية.
فمنذ تأسيسه تتكالب القوى المختلفة على تدميره بشكل أو آخر، في أكثر صراعات العالم حقارة، بشر تتجاوز عقولهم السيريالية إلى ما وراء العمق ما فوق الطبيعي لحياة المجتمعات من أجل أهداف سياسية شريرة، لا تغرس سوى الشر، ولا تنبت غير الأحقاد، ثمارها نار ودمار يحرق اللبنانيين الذين لا ذنب لهم إلا أنهم ولدوا في وطن الانقسامات والصراعات والطائفية، تتقاسمهم مشاريع سياسية ومصالح مادية تتجاوز كل التصورات الماورائية واللاعقلانية. فهل يُعقل أن ترسو (سفينة الموت) عام 2013 في مرفأ بيروت وتفرغ شحنتها، وهي مؤلفة من 2750 طناً من نترات الأمونيوم التي تستخدم في صناعة المتفجرات وفي السماد الآزوتي وتبقى هذه الشحنة حبيسة المخازن دون رقيب أو حسيب؟!!
لقد كُتب على بيروت، التي لم تتخلص من جراح الماضي، أن تظل تنزف، وأن تدفع من دماء أبنائها الغالية ثمن الاستهتار والفساد آلاف المصابين والمشردين وأكثر من مئة وستين شخصاً قضوا نحبهم وتدمير أحياء كاملة عدا عن الميناء الشريان الحيوي لبيروت، وفقد المخزون الاستراتيجي من مخزون القمح.
غطى دخان الانفجار سماء لبنان، وسُمع صوت الانفجار في قبرص كأنه مشهد من مشاهد القنبلة النووية. الجميع شعر بالفاجعة في المكان ومحتوياته، السماء والأرض تسربلتا بالدخان، ولهيب النار أصاب المواقع والأبنية والشجر والبشر. الموت الأسود الذي خيم على المدينة اغتال أحلام الجميع، لم يختر ضحاياه على أساس عرقي أو مذهبي أو ديني، ذاق الجميع من نفس الكأس. شاشات الفضائيات تنقل على الهواء مواكب الألم والموت والنار تتساقط على الأرض، والوجوه غارقة بالدماء، النار تشتعل وتمارس تأثيرها على كامل الطبيعة ولحظات الحزن تتساقط مصبوغة بالرماد وحزن الأرض، حجر يتساقط، دم، رماد، المدينة تحولت إلى لوحة من الجحيم في الشكل والتكوين، الفرقعات تتساقط تباعاً كأنها خرزاً ملوناً.
ظهر رجل جريح يركض في الشارع يعرج على رجله ويتعثر وجهه مبلل بالدموع، يصرخ، تحشرجت في فمه الكلمات وهربت أنفاسه من صدره وسقط على الأرض، حاول أن ينهض، لكنه فارق الحياة. وهناك سيدة أخرى تهدم بيتها وهي تعزف البيانو، تمارس فلسفة الجمال السيريالي، وتقدم للعالم حقيقة خافية أن لبنان لن يموت. لبنان وطن الحب والجمال والألم، لبنان الحضارة والفن، لبنان جنة الشرق التي تضاهي باريس الغرب، لبنان قبلة المصطافين العرب من كل حدب وصوب، لبنان ذلك المزيج العجيب بين المتدين والمثقف والجاهل، الشيخ والقسيس، العربي والأعجمي.
هذا التنوع الثقافي والعرقي والمذهبي كان المزيج الذي يميز لبنان، ويجعله فريداً من نوعه، قبلة التعايش والتسامح والإخاء إلا أن القوى الخارجية أبت إلا أن تجعل من لبنان مسرحاً للانقسام والاحتراب، من أجل تنفيذ أجندات لا تريد خيراً بلبنان ولا اللبنانيين؛ بل تريده ممزقاً محترقاً، والأبرياء هم من يدفعون الثمن باهظاً من دمائهم وأحلامهم واستقرارهم.
فمن تشرد ليس سوى الأبرياء الشرفاء، ومن أريقت دماؤهم هم الأبرياء، ومن تشتتوا وأصيبوا أبرياء لا ناقة لهم ولا جمل في ألاعيب الساسة والدول، ولا دخل لهم في فساد كبار الموظفين. وما غليان الشارع اللبناني إلا صرخة ألم علها تجد من يشعر بهؤلاء المساكين الذين يريدون لبنان بلا طائفية، بلا أجندات غربية أو شرقية أو مذهبية. فقط لبنان ولا شيء سوى لبنان.. فهل يعقل المسؤولون ذلك قبل أن يتسع الخرق على الراتق؟.. حفظ الله لبنان وشعبه من كل مكروه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"