أوروبا والحرب الباردة الجديدة

04:27 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

تتضح مع مرور الوقت، بشكل تدريجي، ملامح حرب باردة جديدة بين العملاقين الكبيرين: الصين والولايات المتحدة، وهي حرب تختلف بشكل كبير عن الحرب الباردة التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية؛ كونها حرباً اقتصادية وتكنولوجية بامتياز، تأتي في مرحلة تاريخية أصبح فيها الاقتصاد العالمي متداخلاً ومتشابكاً بشكل غير مسبوق، وأضحت التبعية المتبادلة للدول مسألة يصعب تجاوزها أو إنكارها، كما أن الحديث عن حرب باردة جديدة لا يدخل في خانة التهويل، بقدر ما يشير إلى وجود قناعة لدى العديد من النخب الأمريكية والصينية بأن البلدين دخلا فعلاً مرحلة المواجهة الصامتة التي ستكون لها تداعيات سلبية مؤكدة على كل دول العالم بشكل عام، وعلى الاتحاد الأوروبي بشكل خاص.
وقد صرّحت نائبة من الحزب الجمهوري الأمريكي في 15 مايو/أيار الماضي، بعد تقرير صادر عن الشرطة الفيدرالية يشير إلى قيام الصين بتجسس سيبراني، بأن بلادها بصدد الدخول في مرحلة حرب باردة مع الصين، كما جرى تأكيد حتمية هذه الحرب من طرف مسؤولين أمريكيين آخرين سواء من النواب الجمهوريين أو من شخصيات مقربة من إدارة ترامب. وحذر وزير الخارجية الصيني في 24 من الشهر نفسه، العالم من أن بكين وواشنطن هما الآن قاب قوسين أو أدنى من الدخول في حرب باردة جديدة، بعد مرور أكثر من 10 سنوات من بداية شعور أمريكا بوجود تهديد صيني حقيقي لمصالحها ولزعامتها للعالم، خاصة منذ أن عبّر الرئيس السابق أوباما، عن حرصه على ضرورة تركيز السياسة الخارجية لواشنطن على منطقة آسيا.
ويذهب الباحث فريدريك مورو، إلى أن المواجهة بين الصين وأمريكا لم يعد من الممكن تجنّبها، وتنحصر الأسئلة التي تطرح الآن بشأنها، حول طبيعة هذه المواجهة ومداها، وهل بالإمكان المحافظة على الوضع القائم على الرغم من طابعه المتوتر في انتظار نهاية الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، كما يؤكد الكاتب جراهام أليسون من خلال البحث التاريخي الذي أنجزه في هارفارد، أن المواجهات التي حدثت خلال الخمسة قرون الأخيرة، ما بين قوة صاعدة وقوة مهيمنة، قد تكرّرت 16 مرة، وأدت إلى نشوب حروب 12 مرة؛ الأمر الذي يشير إلى المخاطر الجدية التي يمثلها الوضع المتأزم للعلاقة بين أمريكا والصين، وبالتالي فمن الأهمية بمكان أن تتمكن القوتان من التحكم في قلقهما ومخاوفهما لتجنب حدوث صدام مسلح.
وعليه، فإن هذه الحرب الباردة الجديدة على الرغم من اختلافها عن الحرب القديمة بسبب غياب توجهات صينية تتعلق كما يقول كيشور محبوباني بالهيمنة الأيديولوجية من جهة، ونظراً لكون التقليد التاريخي للصين يؤكد أنها لا تمتلك طموحات توسعية من جهة أخرى، فإنها تُجبر القوى الكبرى الأخرى في العالم، على اتخاذ مواقف واضحة من هذه الحرب؛ لأن مرحلة الفرز بين الخصوم والحلفاء بدأت تفرض نفسها على مستوى العلاقات الدولية.
وسيكون الاتحاد الأوروبي في طليعة القوى العالمية التي سيتوجّب عليها أن تختار معسكرها، وهو اختيار شديد الصعوبة في ظل حكم إدارة الرئيس ترامب الذي سبق له أن صرّح في دافوس، بأنه لا يوجد من هم أصعب في مجال الأعمال من الاتحاد الأوروبي. ومن ثمة، فإن بروكسل مضطرة إلى تبني سياسة واقعية، بصرف النظر عن المعطيات التاريخية والحضارية التي تؤكد أن ما يجمع بينها وبين واشنطن هو أكثر عمقاً من العناصر التي تربط بينها وبين بكين.
ومن الواضح أنه إذا اعتمدنا فقط على مقوّمات القوة الناعمة، فإن أوروبا ستكون مضطرة إلى التحالف مع أمريكا؛ لأنه خارج عناصر القوة الاقتصادية والتكنولوجية، فإن الصين لا تمتلك قوة ناعمة قادرة على التأثير في الاتحاد الأوروبي. وبالتالي، فإن بروكسل تجد نفسها في سياق الظروف الجيوسياسية الراهنة، أمام خيار وحيد يتعلق باعتماد سياسة متوازنة تراعي مصالحها الخاصة في المقام الأول، من خلال التخلي عن وهم إحداث تغيير في مواقف بكين وسياساتها اعتماداً على سلاح العقوبات؛ لأن ذلك لن يزيد الصين سوى تشبث بخياراتها الاستراتيجية، وستكون مضطرة أيضاً، إلى اعتماد سياسة براجماتية في التعامل مع بكين تحافظ على القيم الأوروبية دون السقوط في سياسة إعطاء الدروس للآخرين.
ويمكن أن نستنتج في الأخير، أن أوروبا التي اكتسبت تجربة كبيرة من الحرب الباردة السابقة، تبدو حريصة الآن، على ألا تتم إدارة الحرب الجديدة داخل أراضيها وعلى حساب مصالحها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"