محكمة الحريري نفّست الفتنة

04:21 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عصام نعمان

كل أمر في لبنان مثير للجدل، وغير قابل للحسم. وكل أمر يحدث، أو لا يحدث، له وجهان: داخلي، وخارجي. هذا ما قام بتوصيفه الحكم الذي أصدرته، بعد 15 سنة من التحقيقات والمحاكمات، غرفة الدرجة الأولى من المحكمة الخاصة بلبنان في لاهاي، المعروفة إعلامياً باسم محكمة الحريري.
لفتني في هذا المجال توصيف صحيفة «الجارديان» للحكم الذي طال انتظاره. فقد أقفلت الصحيفة البريطانية المرموقة ملف القضية بالقول إن الحكم «قوبل بمفاجأة في بيروت: معارضو «حزب الله» شجبوا النتيجة، واصفين إياها بأنها خيبة أمل كبيرة، وأنها أخفقت في الوصول إلى الحقيقة».
وصحيفة «نيويورك تايمز» استغربت كيف انه بعد سنوات من المحاكمات «يبقى السؤال الذي لا جواب له: من اعطي الأمر بقتل الحريري»؟
التعليقات الخارجية، والداخلية، آنفة الذكر، تلخّص حال المشهد اللبناني بعد صدور الحكم في قضية اغتيال الرئيس الراحل، رفيق الحريري: كل أمر في لبنان يبقى مثيراً للجدل، وغير قابل للحسم.
مع ذلك، يبدو أن أمراً واحداً أمكن حسمه: تنفيس الفتنة التي كانت ستسود البلاد لو أن حكم المحكمة حدّد هوية الفاعل، كما كان يتمناه أنصار الحريري، وحلفاؤهم السياسيون. والحق أن، سعد الحريري، نجل الرئيس الراحل رفيق الحريري، بدأ بتنفيس الفتنة قبل صدور الحكم بدعوته أنصاره إلى التعقّل، والاعتدال، والحرص على وحدة البلاد، والعيش المشترك. وبعد صدور الحكم حرص سعد الحريري من لاهاي على القول: «باسم عائلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري وباسم جميع عائلات الشهداء والضحايا، نقبل حكم المحكمة ونريد تنفيذ العدالة».
كيف يكون تنفيذ العدالة؟ سعد الحريري حدّد وجهة نظره: «المطلوب منه أن يضحي اليوم «حزب الله» الذي صار واضحاً أن شبكة التنفيذ من صفوفه، وهم يعتقدون أنه لهذا السبب لن تمسكهم العدالة، ولن ينفذ بهم القصاص».
سعد الحريري يطالب، إذاً، «حزب الله» بتسليم المتهم المحكوم من قِبَل المحكمة بالاشتراك في عملية الاغتيال: سليم جميل العياش، لكونه عضواً في تنظيمه.
سليم العياش متوارٍ عن الأنظار، وقد حوكم غيابياً، و«حزب الله» كان أعلن سابقاً أنه لا يعترف بالمحكمة، وغير معني بما تقوم به، كما لم يقرّ يوماً بأن سليم العياش عضو في تنظيمه.
«حزب الله» لم يعلّق حتى كتابة هذه السطور على حكم المحكمة. كما لم يعلّق على مطلب سعد الحريري بتسليم سليم العياش. ما العمل؟
قد يحافظ سعد الحريري على سلوكية الاعتدال التي اتّبعها قبل صدور الحكم، وبعده، فيتمسك إزاء «حزب الله» بمطلب تسليم العياش، إنما من دون الدخول معه في معركة سياسية، أو مشادة إعلامية، ولعله سيركّز جهوده على سبيل آخر لما سمّاه تنفيذ العدالة، وهو الإيعاز إلى محامي الادعاء باستئناف الحكم الصادر عن المحكمة، وربما مطالبة النائب العام لدى المحكمة أيضاً، بأن يقوم هو الآخر باستئناف الحكم ما يؤدي إلى نشر القضية مجدداً أمام محكمة الاستئناف، ومباشرة مسار جديد وطويل من التحقيقات والمحاكمات. هذا المسار قد يؤدي بدوره إلى أمرين:
الأول، احتمال نشوب نزاع إعلامي متعاظم بين أنصار الحريري، وخصومه، تتخلله الكثير من التحديات والنزاعات التي من شأنها صبّ المزيد من الزيت على نيران الصراعات التي لا تنتهي في لبنان، ولاسيما بعد وقوع كارثة الانفجار في مرفأ بيروت، والتجاذب الحاصل بين أفرقاء الصراع حول تحديد المسؤوليات.
الثاني، تكبّد لبنان المزيد من النفقات الباهظة على المحكمة التي قد تطول تحقيقاتها ومحاكماتها 15 سنة أخرى، ذلك أن نفقات المحكمة بلغت حتى الآن نحو مليار دولار أمريكي، فهي ستبلغ ملياراً آخر، أو حتى نصف مليار في المستقبل، مع إمكانية عدم حسم القضية.
باختصار، تمكّن اللبنانيون، بفضل حكم المحكمة «الملتبس»، من تفادي الانزلاق إلى فتنة لا تحمد عقباها. لكنهم لم يتمكّنوا بفضل هذا الحكم ذاته من وضع حدٍّ للجدل المحموم حول قضية اغتيال رفيق الحريري في 14 فبراير/ شباط 2005 والمسؤول عنه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

مُجاز في الحقوق ودكتور في القانون العام ومحام منذ السبعينات .. أستاذ محاضر في القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية زهاء عشر سنوات .. نائب ووزير سابق .. له مؤلفات عدة وعديد من الأبحاث والدراسات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"