أفلح إن صدق

04:54 صباحا
قراءة 3 دقائق
أحمد مصطفى

التفاؤل الكبير بإعلان وقف شامل لإطلاق النار في ليبيا له ما يبرره، خاصة أنه لقي ترحيباً وتأييداً من كافة الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالشأن الليبي. واستبشر كثيرون خيراً بأن تؤدي هذه الخطوة إلى مفاوضات جادة بين الأطراف الليبية ذاتها؛ للوصول إلى تسوية سياسية للصراع الذي يمزق البلاد منذ الإطاحة بنظام القذافي في 2011.
إلا أن مياهاً كثيرة جرت منذ التخريب «الإخواني» لاتفاق الصخيرات عام 2015 وإصرار الجماعة الإرهابية وميليشياتها المدعومة تركيّاً والممولة قطريّاً على تجاوز انتخابات 2014 التي خسرها «الإخوان». ومنذ ذلك الحين، تحوّل الدعم التركي الذي كان يكتفي وقتها بالإمداد العسكري ونقل أعداد من الإرهابيين من بقايا «داعش» و«القاعدة» من سوريا إلى ليبيا، إلى تدخل عسكري مباشر بإرسال قوات تركية وأسلحة ثقيلة، فيما يشبه تدخلها العدواني في سوريا الذي انتهى باحتلال أجزاء من شمالها.
وكان لموقف مصر، بدعم خليجي من السعودية والإمارات تحديداً، بالتحذير من تقدم ميليشيات الإرهابيين والاحتلال التركي إلى خط سرت-الجفرة تاثير واضح في وقف الزحف العسكري التركي في ليبيا. لكنه بالتأكيد لا يعني نهاية بؤرة الإرهاب التي تسعى تركيا لتعزيزها في ليبيا، ليس تهديداً لمصر والجزائر فحسب، بل كنقطة انطلاق لنفوذ يمتد من الساحل الإفريقي إلى كل إفريقيا.
جاء اتفاق وقف إطلاق النار الأخير بعد «صراخ» ميليشيات طرابلس وممثلها السياسي، المجلس الرئاسي الذي يضم مؤيدين ل«الإخوان» وتركيا والإرهاب عموماً، من نقص الأموال بعد توقف تصدير النفط. وكان وقف التصدير مسألة في غاية الأهمية، بعد تحويل البنك المركزي الذي تسيطر عليه ميليشيات طرابلس المليارات لتركيا ولدعم الميليشيات الإرهابية في البلاد. ومع أن اتفاق وقف إطلاق النار تضمن إعادة تصدير النفط، الذي تقع منابعه تحت سيطرة الجيش الوطني الليبي المؤيد للشرعية، لكن العائدات ستوضع في مصرف ليبيا الخارجي لحين التوصل لتسوية سياسية نهائية.
الموقف الأمريكي، والغربي عموماً، يريد مشاركة «الإخوان» في السلطة، ويضغط لإعادة تصدير النفط. والموقف العربي المكافح للإرهاب يرى أن الحل في ليبيا سياسي بالأساس وبيد الليبيين. لكن، إذا كان بعض الأطراف في المعادلة الليبية ليس سوى «ممثل» للإرهابيين وداعميهم من الخارج، فالأرجح أن هذا التفاؤل مبالغ فيه.
واضح أن تركيا شعرت بعرض عضلاتها الإقليمية أكثر من اللازم، ما سبب لها «شداً عضلياً» ولا تريد تصعيداً في ليبيا يدخلها في مواجهة مع مصر. كما أن من تعتمد عليهم تركيا وقطر في ليبيا لا يبدو أنهم يتمتعون بتأييد بين القبائل. لا عجب إذاً أن يكون وقف إطلاق النار مجرد فرصة، من وجهة نظر تركيا ومن معها، لتعزيز الموقف والاستعداد لمرحلة عدائية أخرى. ولنا في تجارب تدخلها في سوريا نموذج واضح وقريب. فكل اتفاق تهدئة أو وقف لإطلاق النار مع روسيا انتهى باحتلال تركيا جزءاً من سوريا. كذلك اتفاقات تركيا مع العراق لم تكن من وجهة نظر الحاكم التركي رجب طيب أردوغان سوى فرصة لتعبئة قواته، والتدخل السافر ثانية في الأراضي العراقية.
حتى البند الأساسي في اتفاق وقف إطلاق النار، وهو جعل مدينة سرت منزوعة السلاح ومقراً للسطة في البلاد بدلاً من طرابلس يبدو هدفاً صعباً، خاصة أن ميليشيات مصراتة لديها ثأر عنصري تجاه سرت، ولا يستبعد أن تكون ميليشيات مصراتة، مع إرهابيين آخرين، من بين من تقدمهم سلطات طرابلس ضمن القوة المشتركة للشرطة التي ستحمي سرت المنزوعة السلاح. أما النقطة الأخطر فيه فهي «إخراج كل الميليشيات من ليبيا»، وهو طموح مبالغ فيه. فكيف ستنقل ليبيا عشرات آلاف الإرهابيين من سوريين وعرب وعجم نقلتهم إلى مصراتة وطرابلس؟ وإذا كان أردوغان يهدد أوروبا بهؤلاء الإرهابيين، فإن الغرب يفضل بقاءهم في ليبيا بعيداً عنه، مع ضمان سلطة في البلد تحول دون تسللهم إليه.
تلك المخاوف حقيقية وليست تكهنات، ولا يمكن أن يلدغ المؤمن من جحر مرتين؛ لأن «الإخوان» ومن والاهم ديدنهم الكذب الدائم والغدر على طول الخط. مع ذلك، ترى القوى العربية المعتدلة بارقة أمل في الاتفاق، وفي خلفية ذهنها «أفلح إن صدق». ولعل مصر، وداعميها العرب، يتحسبون لتلك الاحتمالات، وأن اتفاقاً آخر قد ينتهكه الإرهابيون كما فعلوا مع اتفاق الصخيرات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"