دبلوماسية حقوق الإنسان

04:21 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

تعتمد الدبلوماسية العالمية بشكل متزايد على مبادئ احترام حقوق الإنسان في بناء العلاقات بين الدول، بخاصة بالنسبة إلى الدول الغربية الكبرى التي تنصّب نفسها كراعية لهذه الحقوق في العالم، من أجل تحقيق مصالحها، وللضغط على خصومها؛ ونستطيع أن نلاحظ أن اعتماد معيار حقوق الإنسان في العلاقات الدولية قد تطوّر بشكل لافت مع نهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفييتي. فقد لجأت الولايات المتحدة بوصفها القوة العظمى الأولى في العالم، إلى توظيف شعارات حقوق الإنسان للضغط على خصومها، وحاولت تجنيد المنظمات الدولية غير الحكومية من أجل ابتزاز العديد من الدول لدفعها إلى تقديم تنازلات تتعلق بسيادتها، وتوجهاتها السياسية، وخياراتها الاقتصادية الداخلية، وبمواقفها بشأن التحالفات الدولية.
ويشير الباحثون في هذا السياق إلى أن انجلترا استعملت لأول مرة في التاريخ، ما أضحى يعرف الآن بدبلوماسية حقوق الإنسان، من خلال المنشور المتكوّن من أربعين صفحة الذي أصدره زعيم الليبراليين البريطانيين جولدستون، في سبتمبر/ أيلول سنة 1876، وكان ذلك بمثابة أول توظيف صريح لمعيار حقوق الإنسان على مستوى الدبلوماسية الأوروبية، في مرحلة كانت تعتمد فيها دول القارة بالدرجة الأولى على الواقعية السياسية في المجال الدبلوماسي؛ كما مثّل هذا المنشور المثير، انتقاداً وهجوماً دبلوماسياً غير مسبوق لوضعية حقوق الإنسان في الإمبراطورية العثمانية، وقدّم دعماً مباشراً للثوار البلغار الذين كانوا يناضلون من أجل التحرّر من الاحتلال التركي.
ويمكننا أن نلاحظ في المرحلة الراهنة، أن دبلوماسية حقوق الإنسان قد أخذت أبعاداً استراتيجية في سياق منظومة العلاقات الدولية، وأضحت تمثل رهاناً كبيراً بالنسبة إلى الدول الكبرى، ليس لأن المجتمع الدولي أصبح، فجأة، أكثر اقتناعاً بضرورة احترام حقوق الإنسان، ولكن لأن الشعارات المتعلقة بحماية حقوق الإنسان تحوّلت، مع مرور الزمن وتضاعف المآسي الإنسانية، إلى «حق يراد به باطل»؛ ويتذكّر الجميع أنه مع عودة التوتر والمواجهة ما بين روسيا والولايات المتحدة مباشرة، بعد وصول الرئيس فلاديمير بوتين، إلى سدة الحكم، قامت واشنطن بالضغط على موسكو في ما يتعلق بملف حقوق الإنسان في الشيشان، وحرية المعارضة السياسية.
كما أن القسم الأكبر من المواجهة ما بين واشنطن، والصين، يعتمد حالياً على استثمار ملف حقوق الإنسان، والدفاع عن الأقليات في العديد من مناطق الصين، سواء تعلق الأمر بمسلمي الإيجور، أو بالأوضاع السياسية في التبت؛ ومن الواضح أن واشنطن ليست مقتنعة تماماً بمسألة حقوق الإنسان، حتى في التعامل مع مواطنيها السود. وتسعى الكثير من القوى الإقليمية في السياق نفسه، إلى توظيف دبلوماسية حقوق الإنسان من أجل الدفاع عن مصالحها، ولخلق توازنات جديدة على مستوى المشهد السياسي في دول جوارها الإقليمي، فقد لجأت تركيا إلى الترويج لشعار حماية حقوق الإنسان من أجل تبرير احتلالها للشمال السوري، وحاولت أن تستثمر ورقة حقوق الأقلية التركمانية للتدخل في العراق، كما تعمل على توظيف الورقة الفلسطينية من أجل إعادة صياغة علاقاتها مع إسرائيل، ولبلورة سياسة خارجية جديدة في الوطن العربي، بعد أن تبخّر حلمها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، في اللحظة التي اختفى فيها معيار حقوق الإنسان من حساباتها، عندما أقدمت على تقليص كميات مياه الأنهار المتدفقة نحو سوريا، والعراق.
ومن مفارقات دبلوماسية حقوق الإنسان، أن الدول الهشة والضعيفة هي الأكثر عرضة للابتزاز في القضايا المتصلة بحقوق الإنسان، لذلك فقد كانت الدول الإفريقية أشد دول العالم خضوعاً للضغوط بشأن هذه الحقوق، حيث احتلت إفريقيا المرتبة الأولى في عدد الملفات القضائية التي تعاملت معها المحكمة الجنائية الدولية، في مرحلة بقيت فيها مسألة حقوق الإنسان في غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة بعيدة عن الضغط السياسي الدولي.
وتتمثل الخلاصة البسيطة التي نستطيع أن نسجلها بالنسبة إلى هذه الدبلوماسية الانتهازية، في أن المعيار المتعلق بحقوق الإنسان يتضاعف حضوره في الخطابات الرسمية للدول على نحو مضخّم، وغير مسبوق، على مستوى المشهد الدولي؛ بتزامن مع زيادة الحروب والمآسي الإنسانية، وتعرّض قسم كبير من البشر للجوع، والعطش، والمرض، والحرمان من الحقوق المدنية والسياسية، بخاصة مع تزايد انتشار المد اليميني الشعبوي في دول كبرى لم يعد يؤمن قسم كبير من مواطنيها بمبادئ حقوق الإنسان، وبالحق في الاختلاف الثقافي، والعرقي، والديني.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"