أزمة التراكم في مصر

03:48 صباحا
قراءة 4 دقائق
عبدالله السناوي

لم يسر التاريخ المصري الحديث من مرحلة إلى أخرى، ومن تطور إلى آخر بطريقة طبيعية. كل ولاداته «عمليات قيصرية»، وكل هزائمه «عمليات إجهاض». انتفاضاته متصادمة وثوراته متصارعه. الأسوأ تجريف التراكم، كأن التاريخ يبدأ كل مرة من جديد.
هذه حقيقة لا يمكن إنكارها. إذا أردنا أن نواجه أنفسنا بالحقائق فإن تجريف التراكم مرة بعد أخرى هو جذر الأزمات المتوارثة والمستجدة، كأننا لا نتعلم من دروس التاريخ وتجاربه التي دفعت أثمانها من حياة ومستقبل المصريين، ونكرر الأخطاء نفسها.
ما جرى ل«الثورة العرابية» بعد هزيمتها واحتلال مصر عام (1882) أسّس لعمليات تجريف متواصلة.
اغتيلت أولى حلقات الثورة الوطنية المصرية الحديثة من جهات متناقضة، شملت سلطات الاحتلال البريطاني وأسرة «محمد علي»، التي تهدد وجودها في الصميم، وقيادات ذات وزن وتأثير واحترام مثل الإمام «محمد عبده»، وأمير الشعراء «أحمد شوقي»، والزعيم الوطني الشاب «مصطفى كامل». ارتبك الضمير العام حتى لم يعد يدرك لماذا ثار.. وكيف انكسر.. من أبطاله ومن خونته؟
ثم تكرر الارتباك نفسه في الضمير العام بتجاهل ثورة (١٩١٩) ل«أحمد عرابي» حين تبنت رواية إدانته، لم تر نفسها امتداداً وتطويراً في ظروف مختلفة دولياً وإقليمياً لثورته التي جسدتها المؤسسة العسكرية المصرية الوليدة.
لم يرد اعتبار ثورة «عرابي» بصورة كاملة إلا بعد قيام ثورة (١٩٥٢).
قيل إن ثورة «يوليو» قد فعلت ذلك، لأنها أيضاً ثورة عسكرية! كان ذلك إهداراً بالتعسف لقيمة الثورة العرابية وحقها في رد الاعتبار.
لم تكن الثورة العرابية عملاً مثالياً، شأن أية ثورة أخرى، لكنها مثلت في زمانها محاولة كبرى للانتقال من وضع إلى آخر أكثر عدلاً ومساواة.
بذات القدر تبدت مساجلات استهلكت زمناً طويلاً بين نقاد تجربة «أحمد عرابي» حول ثورة (١٩١٩). تلخصت وجهة نظر «الحزب الوطني»، الذي أسسه «مصطفى كامل»، في حملات وانتقادات، بعضها صحيحة وموثقة ل«سعد زغلول»، غير أن منهج النقد الذي اتبعه كتّابه ومؤرخوه افتقد حقيقة كادت تضيع في زحام التنافس السياسي، وهي أنه أعطى ثورة (1919) رمزيتها الملهمة وتجسيدها الحي، رغم ما هو منسوب إليه من صلات وثيقة سابقة مع سلطات الاحتلال البريطاني، وأن الثورة فاجأته.
عندما جاءت «لجنة ملنر» لتقصي آراء المصريين في الاستقلال كانت إجابة الفلاحين في الحقول واحدة: «اسألوا سعد باشا».
في تلك اللحظة الحاسمة من تاريخ مصر، وبعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى تجسدت إرادة الاستقلال حول ذلك الرجل الستيني.
لا يليق بأي منطق تاريخي أن يُقال إن «سعد زغلول» سرق الثورة من الحزب الوطني حزب «مصطفى كامل» وخليفته «محمد فريد».
الأدعى أن نناقش لماذا أخفق الحزب الوطني في قيادة مصر بعد «مصطفى كامل» إلى الثورة التي كانت بشائرها في الأفق؟
هل لأن «محمد فريد» خليفة «مصطفى كامل»، وهو زعيم وطني مستنير وقيمته الأساسية في قوته الأخلاقية، قد غادر إلى ألمانيا هروباً من حملات الاعتقال، أم لأن الحزب الوطني نفسه لم يكن مهيّأً بطبيعة أفكاره وبرامجه لأن يقود ثورة تبلورت دواعيها في عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى ونداءات التحرر الوطني وتقوض الإمبراطورية العثمانية؟!
ثورة «يوليو» تعرضت لاتهام من النوع نفسه بأنها سرقت الثورة من الشيوعيين، أو من «الإخوان المسلمين»، وهو كلام مرسل لا يسنده دليل وتعوزه الأسباب الحقيقية لصعود تيارات وقيادات بعينها وإخفاق أخرى.
ثم إنه لا يمكن إنكار حجم شعبية «سعد زغلول» وارتفاعه إلى مستوى الحدث التاريخي في سياق مفاهيم العصر، فأغلب الانتقادات تنصبّ على مرحلة ما قبل الثورة لا ما بعدها.
السؤال الأول، في أية قراءة موضوعية ومنصفة لتاريخنا الحديث: أين المجرى الرئيسي؟ والسؤال الثاني، لماذا غاب عنه التراكم وتصادمت حلقاته؟
«مصطفى كامل» ضد «عرابي».. و«سعد زغلول» ضد «مصطفى كامل» و«عرابي».. و«جمال عبدالناصر» ضد «سعد زغلول»، حتى وصلنا إلى تصور أن «يناير» تناهض «يوليو»، رغم أن أهدافها العامة تكاد تكون طبعة جديدة في ظروف مختلفة لما طمحت إليه الثورة الأم، مع إضافة الحريات السياسية ثغرتها الرئيسية، التي نالت من قوة مشروعها.
الحقيقة رغم أية مساجلات إنها ثورة واحدة متعددة الحلقات، أضافت في العمق كل منها للأخرى ومهدت لها.
أسوأ ما في القصة كلها إهدار الإرث الوطني باختلاف مدارسه وتجاربه، وإهدار خبرة التاريخ نفسه.. وهو أمر انتهى بنا في نهاية المطاف إلى اعتلال في الذاكرة الجماعية، حتى كادت تبهت المعاني الاستقلالية الحقيقية التي تراكمت، كأن أجيالاً متعاقبة لم تحارب وتضحي وتقاوم من أجل أن يرفع هذا البلد رأسه وينتسب إلى عالمه شريكاً وندّاً. من حق الأجيال الجديدة أن تقرأ التاريخ على النحو الذي يتسق مع تطلعاتها وأحلامها بلا قوة قمع، وقهر روح، أو تزييف وعي وتغييب إرادة. التاريخ لا يصنعه إلا الأحرار. الحق في الخطأ من طبيعة أي تقدم، فالذين لا يخطئون لا يتعلمون. عندما لا نصحح فإننا نظلم الذين ضحوا بشرف لصالح من صعدوا بلا استحقاق.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"