دكتاتورية رئيس

03:41 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. ناجي صادق شراب

الآباء المؤسسون للولايات المتحدة كان هدفهم رئيساً قوياً للولايات المتحدة يجسد الأمة الأمريكية الواحدة القوية، لكنهم في نفس الوقت لم يكونوا يريدون رئيساً دكتاتورياً، فأوجدوا نظام الكوابح الجوامح الذي بموجبه تستطيع كل سلطة أن تحد من توغل السلطة الأخرى، إلا أن الدستور الأمريكي وضع كل السلطة التنفيذية (المادة 2) في يد الرئيس، وكل الجهاز الحكومي والإداري وكل المؤسسات التنفيذية تعمل تحت إدارته ومسؤولة مسؤولية مباشرة أمامه فيعين ويقيل كما يشاء. إلا أن المنصب الرئاسي الأمريكي ليس كأي منصب، فالمنصب يواجه تحديات بحجم دور ومكانة أمريكا العالمية، وهو المنصب الوحيد في العالم الذي يتطلع له ليس فقط المواطن الأمريكي؛ بل العديد من دول العالم. وهنا تظهر إشكالية المنصب من منظور الممارسة والقيود التي يضعها الدستور، ومما يزيد الإشكالية تعقيداً هو حجم التوقعات التي يتوقعها المواطن الأمريكي من الرئيس الذي انتخبه انتخاباً مباشراً. ذلك أن الأمريكيين يفضلون الرئيس القريب منهم، والمتواضع أكثر من الرئيس القوي.
ودستورياً يملك الرئيس صلاحيات واسعة، وخصوصاً في السلطات الخارجية، لكن داخلياً فالأوامر التنفيذية لها حدود، فالسلطة المالية والموازنة مرهونة بموافقة الكونجرس ومجلس النواب تحديداً.
وقد أخضع المؤسسون الرئيس للمساءلة والرقابة؛ بل حتى عزله في حال ارتكب مخالفة دستورية ومخالفة لقسم الرئاسة. وهذا يعني أن الأوامر التنفيذية لا تحل كل المشاكل. وعن ذلك يقول ويليام هوارد تافت: «إن الرئيس لا يستطيع إصدار الأوامر للذرة بالنمو، ولا أن يصلح من أمر الشركات. وكل رؤساء أمريكا يعرفون ذلك، والرئيس ترامب يعرف ذلك جيداً». ومن المعتقدات السياسية أسطورة شخصية الرئيس القوية، فلا توجد هذه الشخصية مع الدستور الملزم. ومن خلال سيادة مبدأ السمو الدستوري، تستطيع المحكمة الاتحادية العليا أن تلغي أي أمر رئاسي ثبت مخالفته للدستور.
لهذا السبب كل الرؤساء يغضبون ويثورون جراء القيود التي تفرض على سلطاتهم؛ بل وذهب بعضهم مثل ترامب إلى الإعجاب بسلطة رئيس كوريا الشمالية والرئيس الصيني ومدحه للرئيس أردوغان ووصفه الرئيس بوتين ب«الرجل العظيم»، لتمتعهم بسلطات واسعة لا يملكها. الرئيس ترامب نموذج مختلف تماماً عن سابقيه بمن فيهم الرؤساء من الحزب الجمهوري. فهو معجب بسلطة الرؤساء الدكتاتوريين مع أنه يدرك بأنه لا يمكن أن يتحول لحاكم دكتاتور ويعطل الدستور فهو في النهاية نتاج النظام السياسي وجزء منه، لكنه في الوقت ذاته بيده الكثير من مظاهر الدكتاتورية. وبتحليل العديد من تصريحاته يرفض القبول بالفشل، وأنه يمثل الحكمة المطلقة، ويلقي مثلاً اللوم على الصين لفشله في مواجهة وباء كورونا، ويلقي باللوم على اليسار الأمريكي والديمقراطيين في تفسير الاحتجاجات الاجتماعية الأخيرة في أعقاب مقتل جورج فلويد. ودائماً يدعي ويتمسك بأنه يملك سلطات وصلاحيات تنفيذية كثيرة تؤهله لحل المشاكل دون العودة للكونجرس أو التقيد بالدستور.
وهناك نموذج آخر يتمثل في قضية التصويت في الانتخابات الرئاسية عبر الإيميل والتشكيك فيها، علماً بأن كل ولاية لها سلطة هذا التصويت، وتلويحه بتأجيل الانتخابات الرئاسية. هذه المواقف التي تبدو فيها الدكتاتورية تعكس شخصية الرئيس ترامب المحبطة من الكثير من المشاكل وأبرزها وباء كورونا وحجم الإصابات وعدم القدرة على السيطرة عليه، والركود الاقتصادي بعد أن حقق إنجازات كبيرة في سنواته الثلاث الأولى.
لكنه على الرغم من ذلك وبسبب نمط شخصيته النرجسية يعتقد بأن بمقدوره أن يفعل شيئاً، والحل مرهون به. ويدعي دائماً أنه يملك القوة التنفيذية لاتخاذ أي قرار يريده، متجاوزاً في الكثير منها سلطات الكونجرس. فهو يفعل ذلك متأثراً بسلطة الدكتاتوريين بأن يجعل كل شيء يعمل لصالح فوزه في الانتخابات؛ بل إنه حسم نتيجتها مسبقاً قبل أن تجري، هذه الظاهرة الدكتاتورية غير المسبوقة في ممارسة منصب الرئاسة تبدو مخاطرها في حال خسارته للانتخابات، فكيف سيكون رد فعله والسيناريوهات المتوقعة؟
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمى وباحث فلسطيني في العلوم السياسية متحصل على الدكتوراه من جامعة القاهرة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ومتخصص في الشأن السياسى الفلسطيني والخليجي و"الإسرائيلي". وفي رصيده عدد من المؤلفات السياسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"