الذين لا يرفعون الرايات البيض

04:17 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبدالله السناوي

بإلهام الدراما نفذت بصيرة كاتب سيناريو لما قد يحدث في المستقبل من تجهيل بكل ما له قيمة أثرية ومعمارية بالهدم والاستثمار في مواضعه ببناء عمارات ومولات تجارية وفنادق ومنتجعات سياحية.
ما هو متخيل في مسلسل «الراية البيضاء» لمؤلفه «أسامة أنور عكاشة»، الذي بث على شاشات التلفزيون عام (1988)، تجسد واقعاً في سنوات حكم «حسني مبارك» الأخيرة.
في الدراما المتخيلة تبدت رغبة مستميتة من سيدة أعمال تعمل في تجارة الأسماك، راكمت ثروتها من أعمال غير مشروعة، لشراء فيلّا لها قيمة أثرية ومعمارية، يمتلكها سفير سابق، لبناء عمارة شاهقة مكانها.
بدت سيدة الأعمال «فضة المعداوي»، التي لعبت دورها الفنانة القديرة الراحلة «سناء جميل»، تعبيراً عن نوع من الثقافة رافقت الانفتاح الاقتصادي سادتها السوقية والاستهتار بمواطن الجمال وضرورات ترقية الذوق العام.
في مشاهد مقاربة وجدنا أنفسنا عام (2003) أمام مشروع لهدم جامعة الإسكندرية العريقة، لا فيلّا صغيرة لها قيمة أثرية.
اللاعبون الجدد: رجال أعمال نافذون في السلطة العليا وقيادات فيها متورطون في خفايا لعبة البيزنس.
لم يستند قرار هدم مباني الجامعة، ولا مستشفاها التعليمي في الشاطبي، الذي يخدم قطاعات واسعة من مواطني المدينة، على أي حيثيات مقنعة ومتماسكة. كانت تلك إرادة عليا باسم توسيع حرم مكتبة الإسكندرية!
في المرتين، المتخيل والواقعي، جرى التصدي لمشروع الهدم بالاحتجاج والاعتصام بعين المكان أمام سطوة البلدوزرات.كانت المفارقة أن قائدي الاحتجاجين حملا الاسم نفسه: «أبو الغار».
خطر لي أن أسأل مؤلف العمل الدرامي «أسامة أنور عكاشة»، والوقائع الحية ماثلة أمامنا: «هل كان تشابه الأسماء مصادفة، أم أنك استلهمت مقومات شخصية الدكتور محمد أبو الغار في بناء شخصية بطل المسلسل السفير مفيد أبو الغار؟».
قال: «لا.. لم أكن أعرف محمد في ذلك الوقت، لكن لا تنس أن مصر مليئة بمثل هذه الشخصيات» - قاصداً الذين تحكمهم قيم الضمير الإنساني وينحازون للجمال في مواجهة القبح ومستعدون أن يمضوا إلى النهاية دون أن يرفعوا الرايات البيض.
المثير إلى درجة قد لا تصدق أن الشخصيتين الحقيقية «محمد أبو الغار» والمتخيلة «مفيد أبو الغار»، الذي لعب دوره الفنان الراحل «جميل راتب»، لهما نفس الطبائع والمقومات، كأن العمل الفني سيرة ذاتية مستوحاة.
كلاهما يستند على نجاح مهني كبير في مجاله، أولهما - أستاذ في طب النساء والتوليد رائد في أطفال الأنابيب وسمعته المهنية والعلمية تسبقه إلى الجامعات الأمريكية والأوروبية.. وثانيهما - سفير سابق، له خبرة واسعة في العمل الدبلوماسي أكسبته مكانة دولية.
كلاهما لديه ولع بالموسيقى الكلاسيكية والفنون التشكيلية، يحتضن المواهب ويشجعها، يتذوق ويقتني دون أن يعزف أو يرسم.
بروح الفنان الكامن فيه تصدى لمشروع هدم جامعة الإسكندرية ومستشفاها التعليمي مع مجموعة كبيرة من أساتذة الجامعات قدموا من القاهرة في عربة قطار للاحتجاج بعين المكان. وبروح المثقف الشغوف بتاريخ بلاده وصفحاته المجهولة أصدر كتابين في توقيت متزامن.
في الكتاب الأول - «أمريكا وثورة 1919» دخل إلى مناطق لم يسبقه إليها أحد في قراءة أوراق ووثائق ثورة (1919) على كثرة ما كتب عن هذه الثورة، كما يلاحظ المؤرخ المعروف «أحمد زكريا الشلق»، رغم أنه ليس مؤرخاً.
أطل على الوثائق الأمريكية، ترجم محاضر اجتماعات لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ وكشف «سراب وعد ويلسون»، الذي أقر بحق الشعوب في تقرير مصيرها عقب الحرب العالمية الأولى، قبل أن يخذل القضية المصرية.
بالانتساب السياسي والفكري فهو أقرب إلى الليبرالية المصرية، وإلى تجربة حزب الوفد على عهد زعيمه «مصطفى النحاس»، لكنه لم يعهد عنه أي انتساب حزبي. هو أقرب بروحه إلى «الطليعة الوفدية» وبأفكاره إلى الاشتراكية الديمقراطية.
له تحفظات جوهرية على طبيعة نظام ثورة (23) يوليو، لكن أفكاره الرئيسية تتقارب مع توجهات مشروعها في جوانب عديدة.
بعد ثورة «يناير» (2011) أسس وترأس الحزب الديمقراطي والاجتماعي بداعي المساعدة في إحياء الحياة السياسية بعد طول موات، لكنه سرعان ما استقال، فالعمل الحزبي ليس مكانه الطبيعي.
هو رجل اكتسب قيمته العامة من ريادته في مجاله وتخصصه وانشغاله في الوقت نفسه بمستقبل بلاده وحقها أن تنتسب إلى عصرها ببناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة تتأكد فيها قيم المواطنة والحقوق المتساوية وحرية البحث العلمي واستقلال الجامعات والقضاء.
في الكتاب الثاني - «الوباء الذي قتل 180 ألف مصري»، قاصداً «الإنفلونزا الإسبانية»، التي اجتاحت العالم عند نهايات الحرب العالمية الأولى وما بعدها.
لو قدر للسيناريست الراحل «أسامة أنور عكاشة» أن يكتب جزءاً ثانياً من «الراية البيضاء» ربما أضاف عمقاً إنسانياً وفكرياً لشخصية بطله المتخيل لتأكيد ما يستحق الاحتفاء به من معان وقيم نحتاجها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"