المبادرة الفرنسية في لبنان

04:06 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.غسان العزي

أن يأتي الرئيس الفرنسي إلى بيروت؛ للاحتفال بالمئوية الأولى للبنان الكبير، فهذا يعد أمراً طبيعياً؛ لأن فرنسا، وتحديداً الجنرال غورو هي التي استولدت «لبنان الكبير» في بداية سبتمبر/أيلول من عام 1920 وتم الاعلان عن هذه الولادة في قصر الصنوبر في بيروت؛ لكن زيارات ماكرون لبيروت تحمل أهدافاً جيوبوليتيكية واقتصادية وسياسية تتخطى الجانبين (الاحتفالي والعاطفي).
صحيح أن فرنسا لم تعد قوة عظمى كما كانت طيلة قرون طويلة؛ بل «قوة متوسطة» كما كان يردد الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان؛ لكنها تبقى صاحبة حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن والاقتصاد الخامس في العالم وقوة نووية ومصالح في الساحة الدولية ودولة أساسية في الاتحاد الأوروبي. وهي لا تنفك تخسر مواقع لها في الشرق الأوسط؛ حيث تتقدم قوى عظمى كروسيا والصين .
ويمكن القول إنه لم يتبق لباريس من نفوذ يمكن إعادة بث الروح فيه إلا في لبنان الذي يتخبط في المشاكل السياسية والمالية والاقتصادية والأمنية والذي تحكمه طبقة سياسية من أفسد ما خلق الله على الأرض؛ وهي طبقة جاهزة لبيع بلدها لأي قوة خارجية. ومؤخراً إضافة إلى النفوذ الإيراني المتنامي والصيني الذي بدأ يطل برأسه، فإن تركيا بدأت تتغلغل من خلال بعض الجماعات الإسلامية لاسيما في الشمال. من هنا قرر ماكرون إيفاد وزير خارجيته لودريان إلى بيروت في يوليو/تموز الماضي والذي عاد إلى باريس بأخبار سيئة من بيروت عن طبقة سياسية أفلست البلد، وتفتقر إلى الكفاءة والوطنية والضمير.
اتخذت فرنسا القرار بالحؤول دون غرق لبنان، وإنقاذه بشروط هي نفسها التي وضعها المجتمع الدولي منذ وقت طويل، وتتلخص بتحقيق الإجراءات الضرورية التي باتت معروفة للجميع، والتي تمتنع السلطة اللبنانية عن تنفيذها لأسباب هي الأخرى معروفة.
مع الانفجار الهائل الذي ضرب مرفأ بيروت لم تعد فرنسا تملك ترف الوقت. سارع رئيسها إلى بيروت برفقة وفد كبير من الوزراء والسفراء السابقين والمساعدات الإنسانية وغيرها، ناهيك عن بارجة حربية تحمل جنوداً وخبراء. وإن كان رئيس الدولة الوحيد الذي ينتقل إلى بيروت لم يكن ماكرون المسؤول السياسي الوحيد. كان هناك وزراء خارجية ورؤساء وزراء (إيران وتركيا على سبيل المثال) إلى جانب مبعوثين دبلوماسيين وغيرهم. بدا واضحاً أن شاطىء بيروت الذي يبدو أنه يعوم على بحيرة من الغاز والنفط، أضحى ساحة صراع دولي خلف الذرائع الإنسانية.
ماكرون جاء ليواجه تركيا التي بدأت تتغلغل في المتوسط على خلفية خلافاتها مع اليونان وصراعها الليبي مع مصر وفرنسا جراء أطماعها في الغاز المتوسطي. تصريحات أنقرة الرافضة لعودة «الاستعمار الفرنسي» إلى لبنان رافقتها تحركات عسكرية بحرية رد عليها الاتحاد الأوروبي بالتضامن مع فرنسا، والتهديد بعقوبات على أنقرة. فرنسا أرادت أن تبرهن بأنها قادرة على تشكيل تحالفات في أوروبا وشرق المتوسط في وجه الأطماع التركية. زيارة ماكرون لبغداد بعد بيروت جاءت في هذا الإطار.
من جهة ثانية، يدافع ماكرون عن الأوروبيين في مواجهتهم لمشكلة المهاجرين (وهذا أحد أسباب البريكست)؛ إذ إن انفجار الوضع في لبنان يحمل مخاطر أن تحمل السفن آلاف المهاجرين من الشواطىء اللبنانية من (لبنانيين وفلسطينيين وسوريين وغيرهم) إلى سواحل أوروبا. وقد منعت قبرص باخرة محملة بالعشرات منهم في 2020/9/5 جاؤوا كمهاجرين غير شرعيين وأعادتهم إلى لبنان.
ولا ننسى أن لبنان الذي يحتاج إلى إعادة إعمار كل قطاعاته المدمرة والمنهوبة من الكهرباء إلى الاتصالات مروراً بالبنية التحتية والمرفأ يشكل مادة إغراء للشركات الدولية من صينية وأمريكية وفرنسية وغيرها.
رفع ماكرون عصا دبلوماسية غليظة في وجه الطبقة السياسية اللبنانية؛ لكنه اختار رئيساً للوزراء ليس بعيداً عن هذه الطبقة. طبّع العلاقة مع «حزب الله» وطالب بحكومة وحدة وطنية، وبعقد سياسي جديد من دون أن يكشف عن ماهية مثل هذا العقد. بدا واضحاً أنه يريد التعامل مع الطبقة السياسية نفسها التي أوصلت البلد إلى الانهيار؛ وذلك بذريعة أنها منتخبة من الشعب. أذعنت هذه الطبقة للإملاءات الفرنسية من دون أي شعور بالمهانة، فقد اعتادت أن تفعل ذلك مع الوصايات الخارجية.
من المؤكد أن ماكرون نسّق مبادرته مع واشنطن التي لا يضيرها أن يحاول الفرنسيون بالدبلوماسية تحقيق ما عجز عنه الأمريكيون بالعقوبات التي أضرت بحلفائهم. والعين الأمريكية تراقب الحراك الفرنسي عن كثب بدليل مجيء المبعوثين الأمريكيين هيل ثم شينكر فور إنهاء ماكرون زيارتيه الأولى والثانية، وتصريح وزير الخارجية بومبيو الإيجابي حيال المبادرة الفرنسية مع تسجيل رفضه مشاركة «حزب الله» في الحكومة اللبنانية. المقاربة الفرنسية تختلف عن المقاربة الأمريكية حيال لبنان وإيران والشرق الأوسط عموماً؛ لكن باريس وواشنطن تجربان التكامل في هذه الأشهر القليلة الفاصلة عن الانتخابات الأمريكية.
ماكرون سوف يعود إلى بيروت في نهاية العام، ليقف على ما أنجزته الحكومة اللبنانية من إصلاحات. وقتها تكون الانتخابات الأمريكية قد حصلت مع ما لنتائجها من انعكاسات على الأوضاع الإقليمية والدولية (سواء عاد ترامب أو جاء بايدن) وسيعرف اللبنانيون وقتها ما إذا كان التدخل الفرنسي مبادرة في الوقت الضائع أو هو توكيل من واشنطن لباريس بالشأن اللبناني، كما فعلت مع روسيا في سوريا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"