إرهاب السلاح المنفلت

03:34 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

لن يستقر عالمنا العربي إلا بالقضاء على السلاح المنفلت، وبالإيمان بأن الدولة القوية هي التي تملك جيشاً قوياً يستحوذ على كل السلاح فيها

عندما يعيش الإنسان داخل دولة يحمل فيها الأفراد السلاح، وتتقاتل به العشائر؛ لتفرض قوانينها، وتتصارع به الميليشيات؛ تنفيذاً لإرادة أوليائها في الخارج؛ وسعياً للسيطرة على القرار والمقدرات، تكون الدولة هي الحلقة الأضعف داخل غابة من الأسلحة، ويسيطر على الأفراد فيها الرعب والهلع، ويضطر المواطن لأن يحرم نفسه من أبسط حقوقه الحياتية؛ ليعيش متقوقعاً داخل ذاته خلف جدران من الخوف، يرتفع فوقها سقف منزله؛ ومن يكون لديه الحلم لتغيير هذا الواقع الشاذ، ويرفع الصوت مطالباً بحقه في حياة بلا خوف، تصدر الأوامر من هذه الجهة أو تلك بإنهاء حياته برصاصة تنطلق من مسدس كاتم للصوت، أو عبر تفجير أو غير ذلك من أدوات الإبادة التي تكون الفعل الأكثر سهولة ويسراً في مجتمعات لا يعلو فيها صوت على صوت إرهاب السلاح المنفلت.

وإذا أرادت جهة أو مؤسسة السعي لكشف القاتل تتوه وتتخبط وتسلم في النهاية بالعجز، فالجهات التي تتخذ القتل وتصفية حياة الناس نهجاً، وشكلت مع بعضها غابة؛ يصعب اختراقها حتى لو كانت الجهة الساعية للبحث عن الحقيقة هي نفسها الحكومة المكلفة بحماية الناس، وتسيير أمور الدولة، والمحافظة على كيانها، ولا غرابة في ذلك؛ فالحكومة ذاتها تعجز عن المحافظة على كيانها، وحماية أمنها، وتحقيق أمانها، وهذا هو ما يحدث في العراق منذ العام المشؤوم 2003؛ عندما جاءت القوات الأمريكية، واحتلت العراق مبشرة بعهد من الحرية، وانطلاقة جديدة له، ليكون قاطرة المنطقة إلى الديمقراطية، فكان قاطرتها إلى الخراب والدمار، وانتشار الإرهاب، وسقوط العراق وغيره في مستنقع من العفن السياسي، والانهيار الاقتصادي، والتفتت الاجتماعي.

رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، وأفراد إدارته يحاولون إصلاح ما أفسده الاحتلال الأمريكي، والتدخل الإيراني، وأعطى للقضاء على ظاهرة السلاح المنفلت الأولوية؛ إيماناً بأنه في ظل انتشار فوضى السلاح، فلا بناء ولا تعمير ولا استقرار ولا أمن ولا أمان ولا دولة.. ولا تكون الكلمة العليا سوى لمن يمتلك سلاحاً أكثر، وسلاحاً أقوى، سواء كان جماعة ارهابية أو ميليشيا موالية للخارج أو عشيرة.

تحول العراق إلى دولة منفلتة السلاح، ومتعددة الولاءات، وحاضنة الميليشيات لم يكن أمراً عبثياً، فقد كان الهدف هدمه تماماً؛ ولكي يتحقق ذلك كان من أوائل قرارات بول بريمر الحاكم الذي عينه جورج بوش الابن؛ بعد أن وضعت أمريكا يدها على العراق، هو حل القوات المسلحة العراقية، ووزارتي الدفاع والإعلام، وإلغاء عدد من أجهزة الأمن والتنظيمات الشعبية، وتسريح جميع عناصر الجيش العراقي والحرس الجمهوري، وإلغاء جميع الرتب العسكرية للنظام السابق، وهو ما خلق حالة من الفوضى؛ وفرت مناخاً أمام الخلايا النائمة للعصابات والميليشيات؛ للسطو على ما تطاله يديها من أسلحة وحدات الجيش، وفتحت الباب أمام المستفيدين من هدم الدولة العراقية؛ لتزويد مواليهم بكل أدوات القتل والتدمير، وبكل ما يسهم في إحياء الفكر الطائفي الذي كان في حالة سبات إجباري قبل الاحتلال الأمريكي، لتكون النتيجة مانرى العراق عليه منذ 2003 وحتى اليوم.

حكومة مصطفى الكاظمي ليست أول حكومة عراقية تدرك مخاطر السلاح المنفلت على الدولة، فقد سبقتها حكومات في ذلك؛ لكنهم تعاملوا مع هذا الملف الشائك باستهانة، أما الحكومة الحالية فقد أخذت الأمر بجدية غير مسبوقة، وعاهدت الشعب على تخليصه من الآفات التي تجر الدولة للخلف كلما همت لتخطو خطوة للأمام؛ لذلك عهد رئيس الوزراء إلى الجيش مهمة جمع السلاح، وتخليص الدولة من هذه الفوضى، وطالما توافرت الإرادة السياسية؛ فسوف ينجح العراق في القضاء على هذه الظاهرة، واستعادة أمنه وأمانه واستقراره، خصوصاً أن الكاظمي يحظى بتأييد شعبي كبير، ونتمناه أن يكون عند حسن ظن العراقيين والعرب به.

السلاح المنفلت ليس داء العراق وحده؛ ولكنه داء أصاب العديد من دولنا العربية، وأصبح المهدد الأكبر لوحدة ليبيا، وفيه غرقت سوريا سنوات وسنوات، وهو الوجع الذي أصاب لبنان منذ الحرب الأهلية ولَم ينتهِ بانتهائها؛ بل استمر مصدراً للنزف اللبناني حتى اليوم، وربما في الغد، وهو الذي فرق اليمنيين، وجعل منهم شيعاً وجماعات مختلفة الانتماء والولاء.

لن يستقر عالمنا العربي إلا بالقضاء على السلاح المنفلت، وبالإيمان بأن الدولة القوية هي التي تملك جيشاً قوياً؛ يستحوذ على كل السلاح فيها، ولا يسمح لأي فصيل أو جماعة أو ميليشيا أو عشيرة بأن تنافسه تسلحاً وقوةً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"