المشروع القومي.. السد مجدداً

03:44 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبدالله السناوي

لم يكن السد العالي سوى معركة في حرب حقيقية حول المنطقة بند في مشروع، وليس كل المشروع

عاد السد العالي إلى صدارة المشهد المصري ورد اعتباره مجدداً بالدور الذي لعبه في حماية البلد من فيضانات مدمرة ضربت الشقيق السوداني بكوارثها ومآسيها.

على مدى عقود متصلة لاحقته، حملات ممنهجة بدواعي تصفية الحسابات مع «جمال عبدالناصر» عصراً ومشروعاً، دون أدنى اعتبار لأدواره في التنمية وحماية مصر في أوقات الفيضانات، أو عند الجفاف والشح المائي.

ارتفعت أصوات في سبعينات القرن الماضي وما بعده تصم السد بكل نقيصة وتدعو إلى هدمه، كان من بينها مرشد جماعة «الإخوان المسلمين» «عمر التلمساني».

مرة بعد أخرى تكفلت الحقائق بدحض الحملات وتأكدت قيمته في أدبيات الأمم المتحدة كأهم مشروع هندسي في القرن العشرين.

لم يكن السد العالي سوى معركة في حرب حقيقية حول المنطقة بند في مشروع، وليس كل المشروع!

هناك فارق جوهري بين المشروع العمراني والمشروع القومي.

لا توجد في التاريخ مشروعات قومية بلا كلفة وتكاليف وأثمان. معاركه اكتسبت إلهامها بتحدي البناء والتنمية واستكمال مقومات استقلال القرار الوطني لا بالأغاني والأناشيد. معركة السد العالي لم تصنعها «الأغاني»، بل هي التي صنعت أغانيها.

تصدر «صلاح جاهين» مشهد الأحلام الكبرى. بقدر ما أخلص لاعتقاده أثرت أناشيده جيلًا بعد آخر، رغم ما ألمّ به من اكتئاب حاد بعد هزيمة «يونيو».

في أشعاره تبدت قدرات لا تتوافر لغيره تبسيطاً لأعقد الأفكار السياسية بلغة يفهمها الناس جميعهم على اختلاف ثقافتهم ومستوى تعليمهم.

«لا تثبت الأحجار بلا موان ... وكانت إرادتنا ونفذنا أمرنا

ولا همنا ساخط ولا زعلان» ... أين الأحجار والموان؟

كان ذلك تحدي البناء.

بدت «جوابات حراجي القط العامل في السد العالي وزوجته فاطنة أحمد عبدالغفار»، التي أبدعها باللهجة الصعيدية «عبدالرحمن الأبنودي»، نظرة عميقة في فلسفة الحياة والغربة والتحول داخل مجتمع مهمش وفقير إلى عالم جديد.

التحول في أساليب الإنتاج من «صاحب فأس» إلى «أسطى في السد العالي» ألهم الشعر وأضفى عليه إلهامه.

أسس السد العالي لعصر التصنيع الثقيل وتمصير الاقتصاد المصري وبناء قطاع عام قوي وقادر على التنمية والوفاء بمتطلبات الانتقال إلى عصر جديد أكثر عدلاً اجتماعياً. ارتبط بتوليد الكهرباء إلى معدلات غير مسبوقة بحسابات زمانها وزيادة رقعة الأراضي الزراعية مع اتساع الخدمات الصحية والتعليمية.

المشروع القومي هو مجموعة «القيم الأساسية»، التي تحكم الحركة إلى المستقبل وتمثل المشترك الأعظم بين جميع القوى والاتجاهات السياسية.

المشروع القومي لم يخترعه «عبدالناصر»، فهو لم يخترع الوحدة العربية ولا خلق من فراغ أحلامها وتطلعاتها، وهو لم يخترع مطلب الاستقلال الوطني والاستعداد للتضحية في سبيلها، لم يؤلف دور مصر في المنطقة، حيث حقائق الجغرافيا والتاريخ تدعو إليه، ولم يكتشف مقتضيات العدل الاجتماعي.

الأفكار الرئيسية ل«عبدالناصر» كلها تقريباً كانت موجودة في الجو السياسي والثقافي العام قبل ثورة يوليو.

قيمته في التاريخ أنه وضعها موضع التنفيذ وتحمل مسؤولية مجابهة التحديات والصعاب.

لعل «حكاية شعب»، التي صاغها «أحمد شفيق كامل» وأنشدها «عبدالحليم حافظ» من ألحان «كمال الطويل»، أفضل ما غُني لملحمة السد العالي حيث وضعت في سياق تحدياتها ومعاركها طلباً للتحرر الوطني والتنمية المستقلة.

لم يكن تحدي السد العالي حرباً في فراغ الدعايات، فقد استكمل مقومات القدرة عليه من تأميم قناة السويس في (٢٦) يوليو (١٩٥٦).

ألهمت صرخة «عبدالناصر» من على منبر الأزهر الشريف إثر العدوان على مصر: «الله أكبر.. سنقاتل ولن نستسلم أبداً»، حركات التحرير في العالم الثالث.لم تكن مصادفة أن مصر اكتسبت قيادتها للعالم العربي والقارة الإفريقية، وتقدمت لقيادة حركة عدم الانحياز بعد ملحمة الصمود في حرب السويس. لا توجد أدوار بلا أثمان وتكاليف ومتطلبات.

المشروعات الكبرى تُقاس بنتائجها السياسية والاجتماعية كما أرقام عوائدها الاقتصادية.

لم يكن بناء السد العالي سوى خطوة في مشروع امتد إلى كل مناحي تحسين جودة الحياة، وإشاعة العدل الاجتماعي. في عام (1967) جرى استهداف المشروع الناصري من بين ثغرات نظام ثورة يوليو، وكانت الحملة على السد العالي في السبعينات وما بعدها أقرب إلى انقضاض على ركائز ذلك المشروع.

من مفارقات التواريخ أن يرد اعتبار السد العالي مجدداً في نفس الشهر الذي رحل فيه «عبدالناصر» قبل خمسين سنة، فأخذ كثيرون يرددون على شبكة التواصل الاجتماعي بيتاً شعرياً مؤثراً ل«عبدالرحمن الأبنودي»: «يعيش جمال حتى في موته»..الأهم والأجدر بالنظر رد اعتبار المشروع القومي نفسه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"