روسيا «المدمنة» هيدروكربونيــاً

01:56 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. محمد الصياد *


لا تزال روسيا على الرغم من تقديم نفسها للعالم قوةً عظمى أسيرة ظروف سوق الهيدروكربون

لأن الوقت هو للحمائية وليس لتحرير التجارة، كما كان الحال في التسعينات والعقد الأول من الألفية الثالثة، فإن ضريبة جديدة يجري العمل على استحداثها في الاتحاد الأوروبي، هي ضريبة كربون، تعمّد المتحمسون لها تلطيف وقعها على دوائر صنع القرار الدولي، لاسيما الدول التي لا يزال النفط والغاز يشكل عماد اقتصاداتها، بتسميتها «الضريبة الخضراء»، والتي تخطط المفوضية الأوروبية في بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، لفرضها على الدول الأكثر نفثاً لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري، والتي تخفق في الوفاء بالتزاماتها تجاه تنفيذ اتفاق باريس لتغير المناخ. ولحسن الحظ، فإن الجهاز الذي أنشأته الأسرة الدولية كثمرة لجهودها من أجل إزالة العوائق أمام الانسياب الطبيعي لعناصر الإنتاج، لاسيما السلع (المنظورة وغير المنظورة)، ورأس المال، والعمل، لا يزال قائماً، ويمارس عمله من مقره في جنيف كالمعتاد، وإن بوتيرة أبطأ وبسقوف أخف، ونعني بذلك، منظمة التجارة العالمية، وإلا لكانت القوى العظمى قد استغلت حالة «الانفلات الأمني الاقتصادي» العالمية، ووسعت خروقها لقواعد وقوانين المنظمة.

أول المترقبين، المتابعين بقلق لهذه الخطوة الأوروبية المعتزمة؛ هي روسيا التي لا تزال، مند الحقبة السوفيتيية - على الرغم من تقديم نفسها للعالم قوةً عظمى - أسيرة ظروف سوق الهيدروكربون (النفط والغاز)، والتي تحتل المرتبة الرابعة عالمياً؛ من حيث حجم انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. ولذا، فقد كانت أول من عبر عن احتجاجه ورفضه لهذا الإجراء المخطط لتنفيذه. ففي أعقاب اجتماع لمجموعة «بريكس»؛ (تجمع اقتصادي يضم روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا)، يوم الخميس 23 يوليو/تموز 2020، حذر وزير التنمية الاقتصادية الروسي، مكسيم ريشيتنيكوف، من أن خطط الاتحاد الأوروبي لفرض ضريبة الكربون على منافذ حدود الاتحاد، «لن تتماشى مع قواعد منظمة التجارة العالمية، وأن موسكو يراودها القلق البالغ من محاولات استخدام أجندة المناخ لإنشاء حواجز جمركية جديدة». بدوره، اعتبر نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، دميتري مدفيديف، في تصريح له نقلته وكالة أنباء نوفستي يوم الأربعاء 26 أغسطس/آب 2020، أن ضريبة الكربون التي سيفرضها الاتحاد الأوروبي على المنتجات الهيدروكربونية، بأنها «خطوة حمائية مخفية بذريعة معقولة للغاية، وأن روسيا ستخسر بسببها مليار يورو سنوياً، كما أنها ستُخفض ​​استهلاك النفط والفحم المحلي في أوروبا بشكل كبير».

وكان أحد كبار مستشاري الكرملين، قد حذر في فبراير/شباط الماضي، قادة الأعمال الروس، من هذه الضريبة، وطالبهم بالشروع في تكييف خطوط الإنتاج الخاصة بهم، على افتراض أن التعريفة الجمركية الجديدة ستطبق في المستقبل القريب. ومن الواضح أن موسكو التي انضمت إلى منظمة التجارة العالمية متأخرة 18 عاماً عن تاريخ إنشاء وبدء عمل المنظمة (انضمت في عام 2012)؛ بسبب الاعتراضات الأمريكية والأوروبية، إلا أنها اكتسبت خبرة في التقاضي، خصوصاً مع الاتحاد الأوروبي الذي كسبت معه مؤخراً، ثلاث دعاوى إغراق، آخرها في شهر يوليو/تموز الماضي؛ حيث حكم جهاز فض المنازعات لدى المنظمة لمصلحة روسيا في الشكوى التي رفعتها ضد إجراءات مكافحة الإغراق التي اتخذها الاتحاد الأوروبي؛ لذلك فإن بعض الدوائر في موسكو تستبعد فرض هذه الضريبة؛ نظراً لمخالفتها الصريحة والصارخة لقواعد منظمة التجارة العالمية.

لكن هذه الضريبة التي لا تزال قيد التصميم، والتي يراد لها - تصريحاً - أن تكون أداة، أو بالأحرى ضريبة إضافية على السلع المستوردة التي يتم تصنيعها بطريقة يعدها بيروقراطيو بروكسل، غير مستدامة، وأن هدفها (الضريبة) تعزيز الإنتاج المحلي وتحفيز الصناعات الخارجية للتحول للاقتصاد الأخضر، دونها وعورة طريق، تتمثل في مدى توافقها مع قواعد منظمة التجارة العالمية، وهو ما تستند إليه روسيا في اعتراضها الشديد على هذه الضريبة؛ لكن مقترح هذه الضريبة سوف يكتسب مسوغات وزخماً قوياً، إذا فاز مرشح الحزب الديمقراطي، جو بايدن، في انتخابات الرئاسة الأمريكية في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل؛ حيث إنه وعد بإعادة عضوية بلاده في اتفاق باريس لتغير المناخ، ما يعني أنه لن يكون بمقدوره تفادي برنامج الحزب الديمقراطي الذي يتضمن فرض ضريبة مماثلة في حال لم تلتزم الدول الأعضاء في اتفاق باريس بالتزاماتها الخاصة بخفض الانبعاثات، بدعوى أن الحزب لن يسمح للدول الملوثة بالإضرار بالتنافسية الأمريكية.

ويبدو أن الأوروبيين مصممون على التغريد خارج السرب؛ إذ أوعز المفوض التجاري الأوروبي لطاقمه في بروكسل منتصف شهر يوليو/تموز الماضي، إطلاق مشاورات حول النظام الضريبي المقترح، وتم التوصل إلى 4 آليات، تراوح ما بين قائمة السلع الخاضعة للضريبة، وإلزام المستوردين لشراء تصاريح استيراد، إلى فرض ضريبة على مستوى الاتحاد الأوروبي على سلع معينة، سواء كانت مستوردة أم لا.

وشملت قائمة الواردات السلعية المقترحة، بطاريات السيارات الكهربائية المستوردة من بلدان جنوب شرق آسيا وكذلك الصلب. والمثير للدهشة، أن المفوضية الأوروبية، تعتقد أن هذه الضرائب هي بالذات المرجّح تعارضها مع قواعد منظمة التجارة العالمية، وتعتقد أنه يمكن تمريرها، في حين يجري استسهال فكرة السماح للاتحاد الأوروبي بفرض ضرائب على المنتجات على مستوى الكتلة، مع أنها تبدو للقاصي والداني فكرة لا علاقة لها بهدفها المعلن، وإنما هي تتعلق بخلق مصادر جديدة؛ لتحصيل الإيرادات لتمويل حزمة الإنقاذ المالي التي وافقت الدول الأعضاء في الكتلة على تحملها في قمتها التي عقدتها في شهر يوليو/تموز الماضي، والبالغة 750 مليار يورو؛ ذلك أنه وفقاً لحساباتها للميزانية طويلة الأجل وأداة الاسترداد، تتوقع المفوضية أن ضريبة الحدود (الكربون) الجديدة يمكن أن تدر على خزينة بروكسل، ما بين 5 إلى 14 مليار يورو سنوياً؛ وذلك تبعاً لنطاق وطريقة تصميمها؛ لكن الذي لا ريب فيه، أن مساعي مفوضية الاتحاد الأوروبي في بروكسل هذه لن تحظى بإجماع الدول ال27 الأعضاء في الاتحاد، لما تنطوي عليه من مخاطر نزاعات تجارية وسياسية عالمية لا تحتملها العلاقات الدولية التي تسيطر عليها الهشاشة هذه الأيام.

* كاتب بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"