توجهات النيوليبرالية الجديدة

03:01 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

بدا واضحاً أن دولاً كثيرة، ممن تحسب على ما يسمى «العالم الأول»، لم تكن تمتلك خططاً أو سيناريوهات للتعامل مع الأوبئة الفيروسية

في أقل من عام، عرف العالم، ولا يزال، حالة إغلاق غير مسبوقة في حركة انتقال الأفراد، فقد فرضت جائحة كورونا على جميع دول العالم إغلاق منافذها الجوية والبرية والبحرية، وعانت معظم دول العالم المتقدم ارتباكاً كبيراً في الإجراءات الواجب اتخاذها للتقليل من انتشار الفيروس بين شعوبها، وبدا واضحاً أن دولاً كثيرة، ممن تحسب على ما يسمى «العالم الأول»، لم تكن تمتلك خططاً أو سيناريوهات للتعامل مع الأوبئة الفيروسية، كما كشفت التقارير البحثية، والنقاشات السياسية، وتصريحات علماء بارزين، أن الميزانيات المخصصة للأنظمة الصحية كانت قد شهدت تراجعاً كبيراً، ما جعلها لا تتمتع بالكفاءة المطلوبة في مواجهة الأزمة.

نحن هنا لا نتحدث عن دول في أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا، بل عن دول في صلب النظام الرأسمالي، في مقدمتها الولايات المتحدة، صاحبة النصيب الأكبر من سوق العمل الدولي، وعدد من الدول الأوروبية الرئيسية، وأزمة القطاع الصحي في هذه الدول، من حيث المؤشرات، ليست فقط مسألة متعلقة بهذا القطاع، بل بمجمل المنظومة الرأسمالية، والنظام الدولي المرتبط أساساً بالدول الكبرى، والتنافس فيما بينها على حيازة الثروات العالمية، واقتناص أكبر قدر ممكن من حصة العمل العالمية.

في الوقت الذي تصدرت فيه أخبار الإعلام العالمي أرقام الإصابات والوفيات الناجمة عن فيروس كورونا، فإن الاهتمام بنتائج هذه الجائحة على الفئات الأكثر فقراً في العالم يكاد يكون معدوماً، مع أن جهات مهمة وذات مصداقية نشرت تقارير واضحة حول الأعداد الهائلة التي يمكن أن تموت نتيجة الجوع، بسبب الآثار الاقتصادية لهذه الجائحة، وفي مقدمتها تقرير صادر عن منظمة «أوكسفام الدولية»، والتي قالت فيه إنه في نهاية العام الجاري «سيصل عدد الأشخاص الذين يتوفون نتيجة الجوع المرتبط بتداعيات جائحة كورونا في العالم إلى 12 ألف شخص يومياً».

هذا التعتيم على الآثار الكارثية للنتائج الاقتصادية والمعيشية على فقراء العالم نتيجة الجائحة العالمية لفيروس كورونا، يبدو أمراً بديهياً، فقد أصبحت وسائل الإعلام الكبرى، ومنصات التواصل الاجتماعي، تحت هيمنة الشركات الرأسمالية العابرة للقارات، وهي فعلياً من تصنع اليوم الأخبار، وتوجه الرأي العالمي، وتضع أجندة الأولويات، وفقاً لسلم أولويات خاص بمنتجاتها، وطرق تحصيل الأرباح الطائلة، في سوق معولمة، مع ميل واضح لترويج طرق استهلاك محددة، تصب في خانة جمع أكبر قدر من الثروات العالمية.

في شهر يوليو/ تموز الماضي، قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، إن نصف ثروات العالم يملكها 26 شخصاً، فيما تعيش الغالبية العظمى من البشر في ظل ظروف تفتقر للمساواة، وهذه هي المرة الأولى في التاريخ العالمي الذي يحوز فيه هذا العدد القليل من الأفراد على هذا القدر الكبير من الثروات، وتصبح مصالحهم متداخلة إلى الحد الذي يقررون فيه توجهات السوق العالمية، خارج الأطر المؤسساتية للدول، فقد أصبحوا يحوزون القدرة على تحديد سياسات الدول نفسها، بل وتحديد مجالات الصراع والتنافس.

كان التحليل الماركسي/ التقليدي، يتوقع أن تنشأ الأزمات من داخل الرأسمالية نفسها، وأن تشهد حالات تداعي من داخلها، لكن وبحسب سمير أمين (1931-2018) المفكر الاقتصادي المصري العالمي، فإن الرأسمالية تمكنت خلال القرن الماضي من التكيف مع أزماتها، وتجديد نفسها، لكننا نشهد اليوم تطورات نوعية، غير مسبوقة، بعد ثورتي التقانة والاتصالات، فنمط الإنتاج العالمي نفسه قد تغير، كما أن مراكمة الثروات أصبحت أسرع بما لا يقاس من ذي قبل، وترابط سلاسل الإمداد والتوريد أصبح متداخلاً عبر العالم أجمع، وكل ذلك ينبغي أن يفرض قراءة جديدة للنيوليبرالية الراهنة.

الحربان العالميتان اللتان شهدهما العالم في النصف الأول من القرن الماضي، كانتا أحد تعبيرات أزمة الرأسمالية، لكن، وبسبب من التوازن النووي، أصبحت مثل هذه الحروب شبه مستحيلة، لما ستحمله من تدمير كارثي على البشرية جمعاء، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هو كيف ستقوم النيوليبرالية الجديدة بتصريف أزماتها في ظل حالة التوازن النووي، وهو السؤال الذي يطرح معه أسئلة كثيرة وكبيرة، بخصوص آليات تصريف فائض القوة، والذي سيطال تدمير مجتمعات ودول صغيرة، بالإضافة إلى تراجع دور الدول القومية، وافتقادها للكثير من عناصر السيادة الداخلية في تحديد أولويات مجتمعاتها، خصوصاً مع زيادة حالات النقمة والغضب والبؤس التي بدأت تعانيها شعوب الكثير من الدول المتقدمة نفسها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"