في الإعلام الأيديولوجي

03:00 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

قبل نيّف وعشرين عاماً، سلكت قناة فضائية تلفزية عربية مسلكاً ذكياً- ولكن مخادعاً- لكسب الجمهور والسطو على انتباهه.

لم ينشأ لدينا في الوطن العربي، من أسف شديد، إعلام موضوعي ونزيه يكون مرآة شفافة نرى فيها، بأمانة، أوضاعنا وأوضاع العالم من حولنا. وذلك في جملة الأسباب التي تحمل قسماً من النخب الثقافية والسياسية العربية على الالتجاء إلى القنوات التلفزية الدولية: الأمريكية والأوروبية والروسية لمعرفة ما يجري في بلادنا والعالم.

إعلامنا غارق في موجات السياسة ومناكفاتها وخصوماتها، ومسخر لخدمة الرؤى الرسمية والترويج لها. ولا يختلف الإعلام الخاص عن الإعلام الرسمي في هذا حتى أن الفرق بينهما في الأداء يكاد أن يشبه فرق عملة. وإذا صدق ووجدت، في إحدى القنوات، برنامجاً سياسياً أو حوارياً يحتفظ لنفسه ببعض الجرأة على النقد، فالجرأة تلك جرأة زيد على عمرو، حصراً، لا جرأة على الاثنين، هكذا ينتهي إلى حيث يرى الأشياء بعين واحدة لا بعينين

إنه الإعلام الأيديولوجي: الإعلام الذي يريدك، أنت المشاهد، أن لا ترى الأشياء كما هي؛ بل كما يبغي هو أن تراها، فلا يطلعك على صورتها كلها؛ بل على أبعاض بعينها من تلك الصورة، هذا إن لم يغيبها عنك جملة إن عنّ له ذلك ووجد فيه مصلحة. من عُدة اشتغال هذا الإعلام الطمس والإخفاء والتعمية، من وجه، والتظهير والتلميع والتبشير من وجه ثان. وهو، في الحالين، إعلام تحجير ووصاية؛ يحتقر عقل الجمهور ويبتخس قدر ذكائه فيقدم له معلبات «إخبارية» أيديولوجية توزع العالم أمام ناظريه بين فسطاطين: «جنة» وجحيم، رفاهٍ وبؤس، استقرار وتأزم، وتوزع الناس والدول أمام ناطريه بين جنسين من المخلوقات: «ملائكة» و«شياطين»، أهل سلم وعدل وحق، وأهل حرب وحيف وغطرسة. وهو توزيع أيديولوجي وافتراضي بامتياز؛ لا صلة له بحقائق مادية واجتماعية موضوعية.

قبل نيّف وعشرين عاماً، سلكت قناة فضائية تلفزية عربية مسلكاً ذكياً- ولكن مخادعاً- لكسب الجمهور والسطو على انتباهه واحتكار مشاهدته لبرامجها حصراً، فعزفت له على أوتار المعاناة وقضاياها: قضية فلسطين، الاستبداد، الفساد، الفقر والحرمان، وأفردت مساحات من برامجها للقضايا المسكوت عنها في الحياة العامة، وذهبت في تظهيرها إلى الحد الأبعد، واستضافت ما لا حصر له من المثقفين والسياسيين والصحفيين في برامج حواراتها، كما في نشراتها الإخبارية لإبداء الرأي في هاتيك القضايا. ولقد أصابت حظاً من النجاح في استدراج أوسع مشاهدة عربية لبرامجها امتدت لسنوات إلى أن بدأت سياستها وجدول أعمالها الإعلامي في الانفضاح، بعد أحداث 11 سبتمبر من عام 2001، بالغاً ذُرى انكشاف عريه بمناسبة أحداث ما سمي ب «الربيع العربي».

ومن حينها، باتت القناة تلك واحدة من أظهر أدوات الإعلام الأيديولوجي في الوطن العربي، ومدرسة في أساليبه الجديدة ينتهل من دروسها لدى من سيسيرون في الإعلام على دربها، على منوال القناة عينها ستنسج قنوات أخرى قامت بعدها. ستكسب لنفسها الشرعية من المعين نفسه: من الوطنية والقومية وفلسطين والمقاومة وحركة التحرر...إلخ. وكما أوحت القناة الأم بأنها تلفزة للواقع، كذلك فعلت الأخريات. ثم ما لبثت هذه أن دخلت طور انفضاح «واقعيتها» و«التزاميتها» بقضايا الأمة حين صارت لساناً صريحاً لأولي النعمة، ما الذي يعنيه أن لا تجد في أخبارها وبرامجها إلا ما يقع من جدول أعمالها موقع المحة من البيضة؟ لا حديث فيها ولا أخبار إلا عمّن ترغب هي في نقل أخباره إلينا بلسان عربي عن عظيم «فتوحاتهم»، ولا شغل إلا تبييض صفحة من تعاونوا مع الاحتلال الأجنبي لبلادهم وتحويلهم -بعملية تزوير فاضحة- إلى «مقاومين» لمجرد قتالهم منظمة «داعش» التي تشبه «المقاومين» أولاء في الفتك بالوطن والشعب ووحدتهما.

وما من بأس، معها، في بعض حديث عن المقاومة وفلسطين وسوريا لحفظ ماء الوجه والحفاظ على الجمهور؛ علماً بأن فلسطين وسوريا وقسم كبير من الجمهور ولم تعد تنطلي عليهم حيلتها الإعلامية؛ بل كيف تنطلي عليهم أمام قناة مندفعة في انحيازاتها إلى حدود لا تحفّظ فيه، يسيء هذا النوع من الإعلام الأيديولوجي السافر إلى رسالة الإعلام، إلى الجمهور وإلى نفسه؛ لا يبني وعياً أو رأياً عاماً كما قد يتخيل؛ بل يكرس ثقافة الخصومة بين الشعوب وثقافة التحريض والحرب الأهلية؛ يحفر الخنادق فيما هو يظن أنه يبني جسوراً، ويفرق فيما يعتقد أنه يوفِق.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"