وهم الإمبراطورية

03:10 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبدالله السويجي

على القادة الأتراك أن يوفروا على أنفسهم الجهد والمال والأرواح؛ لأن نتيجة هذا الانفلات التاريخي قد تكون كارثية.

لم تعد القوة العسكرية وحدها عنصراً حاسماً لخلق إمبراطورية أو حتى دولة عظمى، فالسلاح لم يعد حكراً على أحد، ومنه السلاح النووي الذي تتسلح به دول كثيرة بشكل علني أو خفي، ما حقّق ردعاً أمام أي قوة تنوي التوسّع القسري واحتلال أراضي الغير والسيطرة على ثرواته ومقدّراته.

كما أن القوى الاقتصادية والمالية والثقافية والحضارية والمعلوماتية لا تؤهل الدول لبسط سيادتها والهيمنة على الدول الأخرى، والأمثلة كثيرة على ما ذكرنا، ولهذا يوجد اليوم خمس دول تُسمّى بالعظمى، تتفاوت درجة تأثيرها على العالم، وانتشارها فيه، وتتسابق سراً وعلانية لخلق مناطق نفوذ، إحداها تتخذ من السلاح، والأخرى من التكنولوجيا، والثالثة من الصناعة، والرابعة من المال، والخامسة من الثقافة، وسائل لتعزيز صورتها وتوسيع نفوذها، ورغم ذلك هنالك دول حديثة وصغيرة في المساحة وعدد السكان استطاعت أن تلعب أدواراً عالمية من خلال سياساتها الخارجية الحكيمة، أو من خلال مساهماتها العلمية والإنسانية، وعطاءاتها ووقوفها إلى جانب الشعوب المتضررة من الكوارث الطبيعية أو الحروب، وحازت مراتب متقدمة جداً في المؤشرات العالمية ذات الصلة.

فالإمارات العربية المتحدة، كنموذج ناصع البياض، تبوّأت مراكز متقدمة جعلتها تفوز بلقب السعادة، ومعايير مؤشر السعادة معروفة للجميع، ويستطيع الباحث العثور عليها بسهولة، وفي هذا الإطار تستطيع الدول الحديثة التي ليس لها تاريخ في نادي الإمبراطوريات التاريخية أن تبني لنفسها سمعة عالمية تضاهي سمعة الدول العظمى.

هنالك دولة استيقظت منذ عشر سنوات تقريباً على حلم عجيب غريب، وطموح أكثر عجباً وغرابة، ووضعت، كما يظهر من سلوكها، هدفاً لإعادة الأمجاد الغابرة وبعث الإمبراطورية من جديد، لكنها لا تستند إلى القوة العسكرية أو النووية أو المالية والثقافية أو التكنولوجية، بل تستند إلى فكر سلفي متطرف، تمزجه بالسياسة حيناً والآلة العسكرية حيناً آخر، وركبت موجة انتشار التشدّد وتحقيقه لبعض الانتصارات، وبدأت تغذي فيه وتتغذى عليه، ما ساهم في نشر الفوضى وتهجير الشعوب وزعزعة استقرار دول كثيرة وتحديداً جاراتها، وانتهزت فرصة نزاعات هنا وسوء فهم هناك، لتتدخل سلبياً وتحاول نشر قواعد عسكرية في أكثر من مكان، مرة بالمرونة وأخرى بالقوة، وتحالفت مع تنظيمات مشبوهة منذ ولادتها تتخذ من الدين ستاراً لتخريب المجتمعات وتأخيرها عن ركب التنمية والحضارة، والتدخل في شؤونها لتمزيقها من الداخل، وهو أشبه بالتنظيمات الدموية السرية، ويقترب من (الحشاشين) في محاولات قلب الأنظمة. وهذه الإمبراطورية المزمع بعثها لم تترك في الدول التي استعمرتها واحتلتها لمئات السنين أثراً إيجابياً، سوى القصور وبعض الكلمات في اللهجات العربية واللغة، والغريب أن لغتها لم تنتشر في الدول التي كانت خاضعة لها، كما فعل الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي، وكل همّها كان جبي الضرائب وتجنيد الشباب في جيشها بهدف التوسّع.

إن سلوك تركيا خلال العقدين الأخيرين هو سلوك مرتبك على صعيد السياسة الخارجية، رغم أنها حققت تنمية اقتصادية داخلية كبيرة في الفترة السابقة، وهذا الارتباك يجعلها تتدخل في ليبيا وسوريا ولبنان والعراق ومصر وقبرص واليونان، بل إنها تتدخل في الشؤون الأوروبية، ما خلق توتراً حقيقياً بينها وبين الاتحاد الأوروبي.

لقد ذوى مفهوم الإمبراطوريات إلى غير رجعة؛ وذلك لتعدد مراكز القوى، لهذا على القادة الأتراك أن يوفروا على أنفسهم الجهد والمال والأرواح؛ لأن نتيجة هذا الانفلات التاريخي قد تكون كارثية. ومن جهة أخرى، لا تستطيع أي جهة أن تتمدد وتنتشر بالقوة، فهناك لغة جديدة تعتمد على الأثر الإنساني الذي تتركه الدول، ومساهمتها في الخير وإنقاذ الأرواح ومحاربة الفقر والتصحر، وليس زيادة اللاجئين والمهجرين ونشر العمى العقائدي بين الجهلة وضعاف النفوس. ومن يريد أن يبني إمبراطورية عليه أن يبنيها استناداً إلى إصلاح ذات البين بين المتقاتلين وحفظ الأرواح، وتوسيع رقعة السلام على الصعيد العالمي، وخلق فرص التعليم للشباب المحتاج، ونشر مبادئ التسامح والمساواة والمحبة بين الناس، «فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"