تحول السياسة الاقتصادية في ظل «كورونا»

د. علي توفيق الصادق- مدير معهد السياسات الاقتصادية بصندوق النقد العربي سابقاً
02:17 صباحا
قراءة 3 دقائق
علي توفيق الصادق
د. علي توفيق الصادق- مدير معهد السياسات الاقتصادية بصندوق النقد العربي سابقاً

أحدثت جائحة فيروس كورونا ( كوفيد-19) التي اجتاحت العالم، كل العالم غنيه وفقيره، تحولاً عميقاً في السياسات الاقتصادية. فتاريخ الاقتصاد يفيدنا بتحول السياسة الاقتصادية في العقد السابع من القرن العشرين من الاعتماد على السياسة المالية الكينزية، نسبة إلى الاقتصادي الإنجليزي جون كينز، إلى السياسة النقدية التي قادها الاقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان، الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1976.

جون كينز أكد على زيادة النفقات الحكومية وتخفيض الضرائب لتحفيز الطلب الكلي وانتشال الاقتصاد من الركود. وقد بدأ جون كينز يروج للسياسة المالية هذه في أعقاب الكساد العظيم في ثلاثينات القرن الماضي. أما ميلتون فريدمان فقد انصبت أبحاثه على الاستهلاك والتاريخ النقدي ونادي بحرية التجارة الدولية، وبحكومة صغيرة، وزيادة بطيئة ومستقرة لعرض النقود في ظل اقتصاد نامي.

جاء التحول من السياسة المالية الكينزية إلى السياسة النقدية في السبعينات بهدف التخلص من الركود الاقتصادي والتضخم. وفي التسعينات من القرن الماضي اكتسبت البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة استقلالية تشغيلية أكبر لمتابعة أهداف سياستها. وقد تأثرت العديد من التغييرات التي نفذتها البنوك المركزية بالأهمية لتحسين مصداقيتها، مما جعل من السهل عليها تحقيق أهدافها. ونذكر في هذا السياق أن أهداف البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة تشمل النمو الاقتصادي بما يتماشى مع إمكانات الاقتصاد للتوسع؛ ومستوى منخفض من البطالة؛ وأسعار مستقرة (أي استقرار القوة الشرائية للنقود)؛ ومعدلات فائدة معتدلة طويلة الأجل.

وفي الوقت الراهن، فإن جائحة فيروس كورونا تؤرخ لبداية مرحلة جديدة، مرحلة كورونا، حيث الحكومات في القيادة وشاغلها الأكبر هو استغلال الفرص واحتواء المخاطر الهائلة التي تنجم عن مستوى مفرط من تدخل الدولة في الاقتصاد والأسواق المالية.

هذه الحقبة الجديدة لها أربع ميزات محددة: الأولى هي الحجم الهائل من الاقتراض الحكومي، والإمكانيات غير المحدودة للمزيد من ذلك. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن البلدان الغنية بحاجة إلى 17% من إجمالي ناتجها المحلي الإجمالي ما مقداره نحو 4.2 ترليون دولار في عام 2020 لتمويل نفقات وتخفيض الضرائب بهدف المحافظة على استمرار الاقتصاد ونموه.

الميزة الثانية هي مطابع النقود في البنوك المركزية في الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، ومنطقة اليورو، واليابان التي «خلقت» نقوداً جديدة من الأموال تبلغ قيمتها نحو 3.7 تريليون دولار في عام 2020. وقد تم استخدام الكثير من هذه النقود في شراء الديون الحكومية، ما يعني أن البنوك المركزية تمول ضمنياً برامج التحفيز. والنتيجة هي أن أسعار الفائدة طويلة الأجل تظل منخفضة حتى مع ارتفاع الدين العام.

أما الميزة الثالثة لعصر كورونا، فإنها تتمثل في قيام الدولة بتخصيص رأس المال العام. فقد دخل الاحتياطي الفيدرالي ووزارة المالية الأمريكية في الأسواق المالية لشراء سندات شركات مثل سندات أبل، وكوكا كولا، وإقراض تجار السندات والمستشفيات غير الربحية، كل ذلك بغرض التغلب على أزمة الائتمان. ويقدر دعم بنك الاحتياطي الفيدرالي ووزارة المالية معاً بنحو 11% من إجمالي ديون الشركات الأمريكية. وفي جميع أنحاء العالم الغني، تحذو الحكومات والبنوك المركزية حذو الأمريكيين.

الميزة الرابعة والأخيرة هي الأكثر أهمية وتتمثل في انخفاض التضخم. ويعني عدم وجود ضغط تصاعدي على الأسعار أنه لا توجد حاجة فورية لإبطاء نمو الميزانيات العمومية للبنك المركزي أو رفع أسعار الفائدة قصيرة الأجل من الصفر تقريباً. وبالتالي فإن انخفاض التضخم هو السبب الأساسي لعدم القلق بشأن الدين العام، والذي بفضل السياسة النقدية المتكيفة، يكلف الآن القليل جداً من الخدمة بحيث يبدو وكأنه أموال مجانية.

السؤال الذي يحتاج إلى جواب هو: هل سيعود دور الدولة إلى طبيعته بمجرد اختفاء الوباء وانخفاض البطالة؟ يمكن للحكومات والبنوك المركزية خفض نفقاتها وعمليات الإنقاذ. لكن عصر الاقتصاد الجديد يعكس تتويجاً لاتجاهات طويلة المدى. حتى قبل حدوث الجائحة، كان التضخم وأسعار الفائدة ضعيفين بالرغم من ازدهار الوظائف وانخفاض البطالة. بما أن أسواق السندات لا تظهر أي بوادر للقلق بشأن التضخم على المدى الطويل، فقد يصبح عجز الميزانيات وطباعة النقود الأدوات المعيارية لصنع السياسة الاقتصادية لعقود قادمة.

كل عصر جديد من الاقتصاد يواجه تحدياً جديداً. بعد الثلاثينات من القرن الماضي، كانت المهمة هي منع الكساد وفي السبعينات وأوائل الثمانينات، كانت المهمة التخلص من الركود التضخمي (القضاء على التضخم وإنهاء الركود الاقتصادي). وفي الوقت الحاضر، تتمثل مهمة صانعي السياسات في إنشاء إطار يسمح بإدارة دورة الأعمال ومحاربة الأزمات المالية دون السيطرة على الاقتصاد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

خبير مالي وإقتصادي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"