الاقتصاد وتوترات «المتوسط»

03:55 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد نور الدين

لم يكن الاقتصاد عاملاً محركاً للنزاعات كما هو عليه اليوم في الخلافات بين تركيا وخصومها في شرق المتوسط

ليست السياسة إلا أحد عناوين الصراعات بين الدول. ومنذ العهود الغابرة كان الدين كذلك عنواناً لنشوب الحروب والنزاعات. وقد سميت حقبات متعددة داخل أوروبا كما بين الشرق والغرب بمسميات دينية وآخرها وأبرزها الحروب الصليبية.

مع ذلك فإن العامل الاقتصادي كان في أساس معظم هذه الصراعات ولاسيما في العصر الحديث. فالحرب العالمية الأولى، قامت بين قوى مسيحية بمعظمها، والحرب العالمية الثانية كانت فقط بين دول مسيحية. والحروب في فيتنام وغيرها لم تكن دينية. كذلك النزاعات اليوم بين أمريكا وروسيا أو أمريكا والصين.

لم يكن الاقتصاد عاملاً محركاً للنزاعات كما هو عليه اليوم في الخلافات بين تركيا وخصومها في شرق المتوسط.

كان اهتمام تركيا بشرق المتوسط منذ عقود على أساس أن بينها وبين اليونان خلافات حدودية بحرية وجوية، كما هي ضامنة وحامية لقبرص التركية منذ العام 1960 على اعتبار أن قبرص جزء لا يتجزأ من الأمن القومي التركي.

لكن منذ اكتشاف النفط والغاز الطبيعي منذ أكثر من 15 سنة في شرق المتوسط انتقل الاهتمام التركي ليكون اقتصادياً وعنوانه امتلاك ثروة طاقة كما في المياه الإقليمية التركية وقبرص التركية كذلك في شرق المتوسط. فكان اعتراض تركيا على ترسيم المناطق الاقتصادية الخالصة لكل من اليونان وقبرص بما يحصر المنطقة الاقتصادية التركية في شريط بحري ضيق بموازاة السواحل التركية. فعمدت إلى توقيع اتفاقية ترسيم حدود بحرية مع حكومة فايز السراج في ليبيا بما يلغي جانباً كبيراً من المنطقة الاقتصادية الخالصة لليونان وقبرص. ومن ثم أرسلت سفناً للتنقيب عن الطاقة في المنطقة التي تعتبرها اليونان تابعة لها. وأرفقت تركيا سفن التنقيب بسفن حراسة حربية. ومن بعد ذلك مُنعت سفن التنقيب القبرصية من التنقيب في المنطقة الاقتصادية التي تعتبرها تركيا تابعة لقبرص التركية. ثم استعرضت تركيا عضلاتها بمناورات عسكرية مع قبرص التركية وبإرسال دبابات إلى الحدود البرية مع اليونان. ولم تعتبر سحب سفينة التنقيب «أوروتش رئيس» من محيط جزيرة ميئيس اليونانية تراجعاً، بل مجرد خطوة أملتها اعتبارات فنية.

كل ذلك من أجل أن تمتلك تركيا ثروة من الطاقة قد تكون موجودة في أعماق البحر المتوسط. فتركيا ليست بلداً منتجاً للطاقة وفاتورتها الخارجية تقارب ال 45 مليار دولار. وامتلاك الطاقة يخفف من هذه الفاتورة ومن ارتهان تركيا للخارج ومن عبء الدين الخارجي الذي يقارب ال 470 مليار دولار ومن الضغوط على الليرة التركية.

في المقابل فإن اليونان مرت بأزمة اقتصادية عميقة أدت إلى إفلاس الدولة وإلى هرولة الاتحاد الأوروبي لمدها بعشرات مليارات الدولارات وهي بحاجة، كما تركيا، لثروات الطاقة في البحر. لذلك وقفت عنيدة أمام التهديدات التركية.

وفي ما يتعلق بالطرف الثالث المباشر من النزاع، أي فرنسا فإنها مثلها مثل أي دولة لها مصالحها التي تحارب من أجلها. فهي تحاول أن يكون لبنان تحت هيمنتها لتكون لها حصة الأسد في الاستثمارات الجديدة بعد انهيار الليرة اللبنانية وتدمير مرفأ بيروت ونصف العاصمة. كذلك فإن شركة «توتال» الفرنسية هي المكلفة من قبل حكومة لبنان بالتنقيب عن النفط والغاز الطبيعي في أكثر من بلوك في المياه اللبنانية. كما إن فرنسا دخلت في مواجهة مع تركيا في شرق المتوسط كما في ليبيا من أجل أن يكون لفرنسا، كما كان لها سابقاً، حصة في ثروات ليبيا. كذلك فإن وقوف فرنسا إلى جانب اليونان في ظل التصعيد العسكري يدفع اليونان إلى شراء أسلحة من فرنسا ومنها عشرون طائرة «رافال»، تنعش الصناعات العسكرية الفرنسية.

الدوافع الاقتصادية لتوترات شرق المتوسط واضحة للغاية وإلا ما معنى أن هذه المنطقة لم تشهد توترات عسكرية وتهديدات متبادلة، إلى ما قبل عدة سنوات، إلا في ما كان له صلة بالوضع القانوني والسياسي لقبرص والخلاف التاريخي بين تركيا واليونان؟.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

باحث ومؤرخ متخصص في الشؤون التركية .. أستاذ التاريخ واللغة التركية في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية.. له أكثر من 20 مؤلفاً وعدد من الأبحاث والمقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"