كرة القدم بين المحلية والعالمية

03:53 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

أصبحت كرة القدم ميداناً للتعبير عن الهويات المتعددة من جهة وفضاءً لإبراز مختلف توجهات العولمة

إن العلاقة التي تربط الرياضة بالسياسة وبالطموحات الاستراتيجية للدول لا تحتاج إلى تأكيد، فقد تحوّلت بعض الألعاب الرياضية خلال العقود الماضية إلى رهان أساسي بالنسبة للقوى الكبرى التي تسعى إلى فرض هيمنتها وإبراز عناصر قوتها الناعمة؛ فقد أصبحت كرة القدم ميداناً للتعبير عن الهويات المتعددة من جهة وفضاءً لإبراز مختلف توجهات العولمة من جهة أخرى، لأن هذه الرياضة تختزل كل التناقضات العالمية وتعرف استقطاباً حاداً بين الحاجة إلى إبراز الهويات المحلية، وإلى فرض سياسات العولمة التي تسعى إلى لمّ شمل شتات العالم حول مبادئ مشتركة تخدم أهداف الفاعلين الرئيسيين في السوق الدولية.

وقد بدأ الصراع بين الطابع المحلي للرياضة وبين توجهاتها العالمية خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فبعد تطور لعبة كرة القدم في إنجلترا وانتشارها الواسع بين العمال، أراد الأمريكيون إبراز خصوصيتهم من خلال تطوير لعبة خاصة بهم أكثر ذكورية تعتمد على القوة البدنية، وحاول الفرنسيون تطوير لعبة الدراجات الهوائية من خلال تأسيس طواف فرنسا الذي أخذ أبعاداً دولية مع مرور الزمن؛ ومع ذلك فإن كرة القدم الإنجليزية وبالنظر إلى بساطة قواعدها وعدم حاجتها إلى تجهيزات ومنشآت مكلفة أضحت اللعبة العالمية الأكثر انتشاراً بين الشعوب، وذلك بالرغم من كل الجهود التي مازالت تبذلها الولايات المتحدة من أجل تحويل الرياضة إلى جزء من عناصر قوتها الناعمة كما يحدث في سياق التنافس على حصد أكبر عدد من الألقاب والميداليات في المنافسات الدولية.

ويتجلى أيضاً الصراع بين المحلية والعالمية في كرة القدم من خلال الأبعاد التي تأخذها المنافسة على البطولة بين الأندية الكبرى وطنياً وقارياً وبين الفرق الوطنية على المستويين القاري والعالمي في سياق بطولة كأس العالم؛ فقد بات التنافس بين الأندية الكبرى في العالم يشكِّل رمزاً للعولمة الرياضية وتحوّلت بعض الأندية إلى علامة مسجلة تستقطب أفضل المواهب العالمية في كرة القدم كما يحدث على سبيل المثال لا الحصر بالنسبة لناديي ريال مدريد وبرشلونة اللذين أصبحت المواجهة الكروية بينهما تسمى بكلاسيكو الأرض؛ وفي مقابل ذلك أضحى التنافس بين الفرق الوطنية بمثابة أداة لإبراز الهوية القومية للدول التي تتنافس في حصد الألقاب القارية والدولية أثناء إقامة البطولات الكبرى على غرار كأسي أوروبا والعالم؛ وتعمل الدول في هذا السياق على التنافس في منح جنسيتها لأفضل المواهب في كرة القدم، كما تتسابق على الظفر بخدمات اللاعبين الذين يحملون جنسيات مزدوجة لتعزيز صفوف فرقها الوطنية.

هناك إذن إجماع دولي لا يمكن إغفاله بشأن دور الرياضة بشكل عام وكرة القدم بشكل خاص في ترسيخ الهوية الحضارية للأمم وفي دعم عناصر الهوية الوطنية بالنسبة للعديد من دول العالم التي لا تملك مؤهلات اقتصادية كبرى، فقد استطاعت دول صغيرة ومتواضعة أن تكتب أسماءها بأحرف من ذهب بعد تتويجها بألقاب عالمية؛ فدولة مثل جاميكا ما كان لها أن تجلب انتباه الرأي العام الدولي لولا الإنجازات التي حققها أبطالها في منافسات ألعاب القوى، والشيء نفسه يمكن أن يقال بالنسبة لإسبانيا التي استطاعت أن تحتل بفضل الرياضة مكانة مرموقة بين الدول وأن تجعل من كرة القدم والتنس أداتين رئيسيتين في تطوير عناصر قوتها الناعمة، حيث أضحت (الليغا) الإسبانية تستقطب أكبر عدد من المتابعين عبر القارات الخمس.

كما أن البرازيل وبصرف النظر عن إمكانياتها الاقتصادية، إلا أن حضورها المتميِّز على المستوى الدولي يظل مرتبطاً بإنجازاتها المبهرة على مستوى بطولات كأس العالم لكرة القدم التي حصدت فيها العدد الأكبر من الألقاب، كما يظل متعلقاً أيضاً بقدرة فرقها المحلية على تزويد الأندية الكبرى بالنجوم والمواهب الكروية القادرة على صنع الفرجة والمتعة في ملاعب العالم؛ والملاحظة نفسها يمكن أن نسجِّلها بشأن الأرجنتين التي أصبحت، بعد حصولها على كأس العالم سنة 1978، دولة رائدة في كرة القدم إلى جانب البرازيل وبخاصة بفضل نجميها الكبيرين مارادونا وميسي.

ويمكن القول إن كرة القدم قد تكون هي الرياضة الكبرى الأولى في العالم التي تمكنت من ترسيخ القيم المحلية، بفضل دورها في تعزيز الانتماء الوطني للاعبين وللجماهير على مستوى البطولات الدولية والعالمية، وأسهمت في تحسين أوضاع المهاجرين في أوروبا بفضل الإنجازات الكبرى للنجوم المنحدرين من أصول مهاجرة؛ ونجحت أيضاً في تطوير شعور عالمي مشترك بالانتماء إلى فضاء كروي يجمع كل عشاق الكرة المستديرة من أقصى الغرب إلى أقاصي الشرق، بالرغم من اختلاف الحضارات والثقافات واللغات، وقد تكون بالتالي الرياضة الوحيدة في العالم التي استطاعت أن تُنسي الملايين عبر العالم، بؤسهم وفقرهم في غمرة فرحهم بفوز فرقهم المفضلة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"