الإبداع لا يعترف بالنمطية

03:08 صباحا
قراءة 5 دقائق

استطلاع: نجاة الفارس

لماذا لا توجد كتب ترشد الشباب الكتّاب؛ مثل: «رسائل إلى روائي شاب» لفارغاس يوسا، و«كيف تكتب رواية» لماركيز وغيرهما؟، يؤكد عدد من الكتّاب والنقاد أن في عالم الإبداع ليس المهم النمطيّة على طريقة التلقين، وإنما على من أراد أن يكتب أن يقرأ نصوصاً كثيرة، ويستفسر من الآخرين بشأنها، ويستخلص منها حكمة، ثم يمسك القلم ويكتب، موضحين أن قيامَ النّقاد والكتّابِ والقرّاء بأدوارهم، وقيامَ مختبرات السّرد بدورها المنشود في توجيه النّصوص وإعادة قراءتها من قِبل نقادٍ وروائيين لديهم خبرة وتجربة ومناقشة النصوص الإبداعية قبل نشرها، يضمن تطبيقاً علمياً وعملياً؛ لمساعدة الكتّاب والمبدعين والارتقاء بالنصوص.

يقول الكاتب سعيد الحنكي: في اعتقادي أن من ألد أعداء الإبداع هي النمطية؛ إذ إن المبدعين ليسوا كعلب «الصلصال» يتشابهون طولاً وعرضاً ومحتوى؛ بل إن الإبداع هو التميز، والتميز هي المهارة الفائقة والخبرة الطويلة في التعامل مع الأشياء الإبداعية، ومن الضروري وجود أساس تبنى عليه الأفكار الإبداعية؛ لكن ليس بصورة نمطية، وبحسب سيجموند فرويد ومصطلحاته الثلاثة: «الهو»، «الأنا» و«الأنا الأعلى»، يقود العقل البشري عملية نسج جدائل المعارف المتراكمة لديه هويته، وقيل قديماً إن أحدهم طلب من «أبو نؤاس» أن يعلمه الشعر، فقال له: اذهب واحفظ ألف بيت ثم عد إلي واسمعني إياها، فذهب الطالب ردحاً من الزمن يقرأ ويحفظ ألف بيت من الشعر، ولما اكتمل حفظه لها عاد إلى «أبو نؤاس» يسمعه إياها، وعندما سمعها «أبو نؤاس» قال لطالبه: اذهب وانسها ثم أقبل إلي، وذهب الطالب واستمر زمناً ينسى ما حفظ من الشعر، وعاد بعدها إلى «أبو نؤاس» يسأله ماذا يفعل، فقال له: اذهب الآن واكتب الشعر، قصة لها مدلولها العميق جداً في التعلم والإبداع، ففي البداية يأتي التعلم بشكله العام المتكامل، ثم يتبعه تكوين الهوية من خلال التجارب الخاصة التي يخوضها الإنسان، ثم تأتي مرحلة الإبداع، وهذا ما يمكن تسميته بنظرية «إعادة هندسة الأشياء»، تتبعها استقلالية الذات، ففي عالم الإبداع ليس المهم النمطية على طريقة التلقين، وإنما على من أراد أن يكتب أن يقرأ نصوصاً كثيرة، ويستفسر من الآخرين بشأنها إذا غمضت عليه، ويستخلص منها حكمة، ثم يمسك القلم ويكتب، وقد يتأثر بهذا وذاك في بداية الأمر؛ لكنه لابد أن يجد طريقه الخاص في نهاية الأمر.

منهجية

الدكتورة أمل التلاوي، تقول: كلُّ البشر يحملون في عقولهم نصوصاً قصصيةً وروائيةً، البعض ينقلها إلى الورق والبعض الآخر يبقيها كما هي، وتتبع مسيرة الكُتّاب يثبت لنا أنّ التجارب الأدبية تنضج مع الممارسة، وإتقان الحرفة، من هنا نجدُ أنّ بعضَ الكتب تخاطب النّاشئة من المؤلفين، لكن من يملكُ الوصاية لوضع خطواتٍ توجَّه إلى المبدع ؟ لاشكّ أنّ خلاصةَ تجربة روائي مبدع له مساحته الخاصّة أمر جدير بالقراءة والفهم، وهو أمر ضروري كحاجتنا إلى القراءة في النّقد والأدب، وقد اتجهتْ دراسةُ السّرد حديثاً إلى البحث عن قصدية النص وقوانينه، وظهر ما يُعرَفُ بمختبر السّرديات، فهذه المختبراتُ تسعى لدراسة النّصوص السّردية دراسةً علميةً ممنهجةً، وتُخضِع العملَ الإبداعيَّ إلى سؤال القصدية الدائم، الذي يُحتّم على المبدع أن تكونَ اختياراته مدروسةً وفقاً لمنطق ومبادئ علم السّرد، الأمرُ ليس عشوائياً إذاً، وحتى يُضبط عليه أن يَخضعَ لوعي الكاتب وقصديّته، فكما ذكر إمبرتو إيكو: «السرد هو تفكيرٌ بالأصابع»، ولما كان كذلك نرى بعضَ النّقاد يهيبون بالكتّاب أنْ يعمَدوا إلى القراءة ودراسة مبادئ علم الّلغة والسّرديات، حتى يقفوا على عتبة ما بعد الكتابة، وينظروا للنّص من زاوية النّاقد والمتلقي لا الكاتب وحده.

من كلّ ما سبق نؤكدُ أهميّة تشارك الأجيالِ في خبراتهم الإبداعية، فالمبدعُ ليس بحاجةٍ إلى جملٍ مختزَلةٍ، اكتبْ هذا واحذفْ هذا، إن قيامَ النّقاد والكتّابِ والقرّاء بأدوارهم، وقيامَ مختبر السّرديات بدوره المنشود في توجيه النّصوص وإعادة قراءتها من قِبل نقادٍ وروائيين لديهم خبرة وتجربة ومناقشة النصوص الإبداعية قبل نشرها، يضمن تطبيقاً علمياً وعملياً؛ لمساعدة الكتّاب والمبدعين والارتقاء بالنصوص إبداعياً، نحو التميز والتفرّد.

أعمال للأطفال

الكاتب نبيل الحريبي الكثيري، يقول: لا أهمية لوجود كتب ترشد الشباب الكتاب لتوجيههم حول كيفية كتابة الروايات والقصص القصيرة أو حتى القصائد والخواطر، وإن اجتهد أحدهم بتأليف كتاب إرشادي فذلك أمر يحسب له، ويستحق عليه الثناء والتقدير، مع اقتناعي بعدم الجدوى؛ حيث إن من لديهم الموهبة والميول للكتابة يستطيعون تدبر أمرهم بحسب إمكاناتهم الشخصية، كما أن غياب مثل تلك الكتب الإرشادية عن الساحة الثقافية العربية هو دليل ملموس على عدم أهميتها؛ نظراً لتوفر كافة تلك الإرشادات والتوجيهات في كافة مواقع التواصل الاجتماعي وهي في مجملها لا تتجاوز صفحتين وهي عبارة عن تجارب شخصية لمؤلفين أرادوا تعميمها على الآخرين على الرغم من علمهم أن ما يصلح لهم قد لا يتناسب مع الآخرين، لكن من يرغب بإصدار كتاب إرشادي حول تعليم كتابة القصص والروايات عليه أن يضع جهده في ذلك الأمر بطريقة أخرى بأن يصدر كتيباً صغيراً؛ لتعليم الأطفال من سن ال8 حتى ال16 كيفية كتابة القصص القصيرة.

نقص ملحوظ

الروائي محمود حبوش يقول: عندما شرع القلقشندي في كتابة موسوعته الأدبية «صبح الأعشى في صناعة الإنشا»، كان يضع نصب عينيه كُتّاب الدواوين، الذين كان يُتوقع منهم التمكّن من عدد لا بأس به من الفنون والعلوم، أما الأعمال التي أُلّفت بهدف مساعدة الأدباء والشعراء فهي عصية على الحصر، حتى أننا نرى كتباً وضعت في فنون الشعر العامي مثل: الزجل والمواليا من قبيل ما كتبه صفي الدين الحلي وابن حجة الحموي، فالثقافة العربية إذاً لم تكتفِ بإنتاج الكتّاب والأدباء والشعراء؛ بل تمخضت أيضاً عن مجموعة من الكتب التي يمكن أن نطلق عليها «كتب الموارد» من معاجم متخصصة، واختيارات شعرية، ومجموعات أدبية، ناهيك عن كتب النحو والصرف، وغير ذلك.

نجد في المكتبة العربية الآن مؤلَّفات عن الكتابة الإبداعية، بما في ذلك الروائية، لكن معظمها مترجمة، وهو ما يشير إلى نقص ملحوظ للمحتوى العربي الأصيل في هذا المجال، نحن بحاجة مثلاً إلى من يكتب عن فن الرواية العربية ليس بوصفها مجرد امتداد للرواية الغربية ذات التاريخ العريق؛ بل كنوع أدبي لا يزال يواجه احتمالات واسعة للتطور في كنف المجتمعات العربية المعاصرة بما تحمله من تنوع وثراء؛ كنوع لا يزال بإمكانه نهل الكثير من التراث القصصي العربي والحكايات الشعبية بما تحمله من تقنيات سردية، ورموز، وتصورات، وعوالم تستجدينا لنكتشفها، فما أودّ تأكيده هو ضرورة توسعة رف الموارد الكتابية في المكتبة العربية؛ وذلك يشمل الكتب العامة التي تقدم نصائح وأمثلة وتدريبات عملية لضرب بعينه من الكتابة، وتلك التي يتحدث فيها كتاب معروفون عن تجاربهم، إضافة إلى الموارد المعجمية المتخصصة والنحوية والإملائية. فنحن بحاجة إلى استئناف ثقافة الموارد التي كانت شديدة الشيوع في حضارتنا.

ويختم حبوش ما لا أستطيع الإفتاء فيه بحسم هو إلى أيّ مدى على الكاتب، لا سيما المبتدئ، الاعتماد على كتب «كيف تكتب»، ومتى يجب أن يتوقف عن قراءتها كلياً، لا شكّ أن هذه الكتب تنبّه الكاتب إلى الكثير من الأخطاء الفنية والأسرار الإبداعية التي قد لا ينتبه إليها إذا ما اكتفى بقراءة القصص والروايات مثلاً، لكنّ الإكثار من قراءة هذه الأدلة قد يقتل الحس الإبداعي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"