السياسي في الإسلام التاريخي

02:08 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

أثبتَتِ التّجربةُ التّاريخيّة للعرب والمسلمين أنّ الدّولة التي قامت فيهم حَمَت اجتماعهم وكوّنت منهم جماعةً سياسيّةً نهضت بأدوارٍ كبيرة.

مع أنّ الإسلام، في النّصوص والتّعاليم، يشبه المسيحيّة في عدم النّصّ على السّلطة السّياسيّة والدّولة ووجوبها وبالتّالي، يختلفان في هذا عن اليهوديّة التي تدخل السّياسة في قلب تعاليمها وأحكامها، إلاّ أنّ تاريخ هذين الدّينين الكبيرين جرى مجرى آخر؛ فقامت الدّول في مجتمعاتهما، وسعي في البحث لها - على الدّوام- عن شرعيّةٍ دينيّة؛ تسوّغ لها الوجود والقيام، أو تخلع عليها المهابة المعنويّة التي هي من عدّة شوكتها وحرمتها. ثمّ لم يلبث السّؤال عن مدى علاقة الدّولة بالدّين، وقيامها عليه، وإن بدأ يتلاشى مع الزّمن؛ كلّما تقدّمت الدّولة في فرض نفسها - على الاجتماعين المسيحيّ والإسلاميّ - كأمرٍ واقع موضوعيّ، وكحاجةٍ لا مهرب منها للتّنظيم الاجتماعيّ فيهما.

إن اكتفينا بمثال الإسلام، وتجربته التّاريخيّة، ألفينا أنّ هاجس الدّولة والسّلطة - وإن لم يكن له ما يبرّره نصّاً - تولّد باكراً في الاجتماع الإسلاميّ منذ اللّحظة الأولى التي تلت الإعلان عن وفاة الرّسول صلى الله عليه وسلم . هكذا التأم من التأم من كبار الصحابة في اجتماعٍ، في سقيفة بني ساعدة؛ للتّداول - مع الأنصار - في الخلافة. كان واضحاً، منذ البداية، أنّ الأمر في هذه الخلافة يتعلّق بالقيادة السّياسيّة للجماعة الإسلاميّة، حصراً، لا بخلافة النبيّ كصاحب رسالة دينيّة؛ لأنّ رسالته اختتمت به؛ وأنّ الصراع عليها بين الأنصار والمهاجرين، لحظتئذ، صراعٌ سياسيّ في المقام الأوّل، على مثال ما سيكونه صراع الأمويّين والهاشميّين عليها في ما بعد؛ غبّ رحيل الخليفة عمر بن الخطّاب... وخاصّةً بعد مقتل عثمان بن عفّان. ولقد أثبتت التّجربة التّاريخيّة للعرب والمسلمين أنّ هذه الدّولة التي قامت فيهم - من غير نصٍّ قرآنيٍّ عليها - حمت اجتماعهم، وكوّنت منهم جماعةً سياسيّةً نهضت بأدوارٍ كبيرة في التّاريخ؛ لأنّها تولّدت - في المقام الأوّل - من حاجةٍ موضوعيّة؛ حاجة إلى الكينونة جماعةً موحّدة تنظّم داخلها وتحمي مصالحها.

تعاظم الوعي بالحاجة إلى الدّولة في امتداد ما أصاب وحدة الجماعة الإسلامية من شروخ وانقسامات؛ من جرّاء محنة الفتن والحروب الأهليّة التي عصفت بها في العقد الرّابع من الهجرة، والتي هدّدت وحدة الدّولة نفسها. ومع كلّ النّكبات والمرارات التي أحفظت النّفوس؛ نتيجة الاحتراب الدّاخليّ على السّلطة؛ وعلى الرّغم من أنّ تجربة المواجهات انتهت إلى غالبٍ ومغلوب، في نهاية العقد الرّابع ومطلع الخامس الهجريّ، إلاّ أنّ الجميع - بمن فيهم من قاتلوا جيش الشّام - غلّب خيار التّسويّة والوحدة حفاظاً على تماسك الدّولة، بعد انقسامٍ، وعلى وحدة الجماعة السّياسيّة. كانت فكرة الجماعة، بما هي الوحدة الاجتماعيّة المتضامنة، تنمو في الوعي الإسلاميّ وتنتصر على فكرة الفرقة والشّقاق. ولم يكن صدفة أن سمّي العام الذي وقعت فيه تولية معاوية بن أبي سفيان (41 ه) بعام الجماعة؛ فلقد تماهى، حينها، معنى الجماعة والدّولة أو قل، لم تعد وحدة الجماعة (الدّينيّة) تدرك إلاّ من طريق وحدة الجماعة السّياسيّة، أي من طريق وحدة كيان الدّولة.

حين غلب السّلاجقة والبويهيّون وسقطت بغداد ومعها الخلافة، وأصبح منصب الخليفة صوريّاً، ثم ملك الفاطميّون مصر بعد تونس، وأصبحت الدّولة الواحدة دولاً لم يتغيّر - مع ذلك كلّه - الشعور بالحاجة إلى الدّولة، حتّى وإن بات شعوراً مأزوماً؛ بسبب انقسام الجماعة الإسلاميّة الواحدة التي ظلّ يؤمل في أن تستعيد وحدتها يوماً إن قامت فيها دولةٌ موحّدة ذات شوكةٍ وبأسٍ عظيم. لكنّ الواقعيّة قضت بواجب الاعتراف بالدّول القائمة، آنئذ، مع ما يعتورها من خللٍ وضعف لأنّ مجرّد وجودها - على علاّتها - قمين بحفظ البقيّة الباقيّة من وحدة الاجتماع الإسلاميّ الذي تقوم عليه تلك الدّولة. ولقد يكون التّبدّيّ الأجلى لهذه الواقعيّة في الوعي الجمعيّ الإسلاميّ - ولدى النّخب بوجهٍ خاصّ - التّسليم بمشروعيّة الدّولة السّلطانيّة التي قامت على أنقاض الخلافة المتداعية، والتي فرضت نفسها من طريق مسارٍ سياسيّ وعسكريّ مديد فرضه قيام إمارات الاستيلاء على هامش «خلافةٍ» في بغداد لم يعد لها من سلطانٍ سوى تزكية هذه الإمارات ومنحها صكوك المشروعيّة.

لم يمنع عدم التّشريع القرآني لمسائل السّلطة والدّولة، إذن، من أن تقوم في التّجربة التّاريخيّة الإسلاميّة سلطةٌ ودولة؛ لأنّ ذلك من مقتضيات الاجتماع الإنسانيّ - كما يقول ابن خلدون - ولأنّ الحاجة إليها ماسّة لتنظيم ذلك الاجتماع وحفظ بقائه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"