المواطنة الحاضنة للتنوع

04:04 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الحسين شعبان

لا يكفي تسطير المبادئ للمواطنة الحاضنة في الدساتير، بل لا بدّ من نشر ثقافة التسامح ونبذ التعصب ووليده التطرف ونتاجهما الإرهاب.

حسناً فعل منتدى الفكر العربي حين نظم ندوة بعنوان «المواطنة الحاضنة للتنوّع» كونها مسألة راهنية وحيوية أولاً، وثانياً: لأنها تثير اختلافات بحاجة إلى حوار ونقاش حولها يساهم فيهما مثقفون وباحثون وناشطون من مختلف التيارات الفكرية: اليسارية والقومية والدينية، خصوصاً علاقة ذلك بمفهوم الدولة: هل هي دولة مدنية وأين موقع الدين فيها؟ خصوصاً أن المواطنة العابرة للهويّات الفرعية تشتبك معها.

ويعود سبب النقاش واحتدامه إلى أن الدولة العربية المعاصرة في كثير من الحالات لم تستطع بعد الوصول إلى شاطئ السلام ببناء دولة المواطنة على أساس التعددية والتنوّع واحترام المواطنة الحاضنة للتنوّع والاختلاف والهويّات الفرعية.

هناك من يحاول خلط مصطلح العلمانية بالدولة المدنية، الأمر الذي يثير حساسية والتباساً بسبب تجارب بعض البلدان الاشتراكية السابقة، مثلما هناك من يحاول أن يقحم الدين بالدولة لدرجة اعتبار كل أمر خارجه إنما هو صناعة غربية واختراع مشبوه بزعم مخالفة فكرة الدولة المدنية للتراث والتاريخ والدين والإيمان، في حين أن المواطن الفرد هو الأساس، وأي مواطن لا يمكن حصره بهويّة واحدة واختزاله إلى حقل واحد.

مثلما هناك من يريد قطع الصلة بالتراث، بزعم أن الأخير عائق أمام تقدّم الدولة واندماجها بعالم الحداثة والمدنية والعلمانية، وينسى هؤلاء أن المفهوم التغريبي الذي يدعون إليه إنما يتنكّر لمساهمة تراثنا الفكري القانوني العربي في التراث العالمي منذ قيام دولة المدينة التي أسسها الرسول وهو دستور محمدي اعترف بالآخر ووضع قواعد أولية للبنة المواطنة بمعناها الجنيني.

ثلاث إشكالات تتعلّق ببعض القضايا الخلافية ذات الخصوصية في كل مجتمع، الأمر الذي بحاجة إلى إعادة قراءة وتفسير وتأويل بما ينسجم مع روح العصر:

أولها- الموقف من المجاميع الثقافية الدينية والإثنية والسلالية واللغوية.

وثانيها - الموقف من حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل، علماً أن الدول العربية كانت وقعت على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، أي اتفاقية سيداو لعام 1979، لكنها لا تزال تتحفظ على بعض موادها.

وثالثها - نظام العقوبات والحدود الذي يتعارض في بعض قواعده مع اللوائح الدولية بهذا الخصوص.

وتلك جميعها تندرج في إطار منظومة حقوق الإنسان، فكيف السبيل للتواؤم معها بما يجعل الخصوصية رفداً للفكرة الشمولية، من خلال التفاعل بينهما؟ فثمة من يوقّر فكرة المواطنة الحاضنة، وهناك من يحقّرها، والأخير ينظر إليها نظرة أحادية وليست واحدية، في حين أن الأول يعتبر التنوّع عامل إثراء وإخصاب وليس عامل إفقار وإجداب، وهو أساس فلسفة المستقبل للمجتمعات الآمنة - السلمية.

فالمجتمعات الأحادية تتراجع في حين أن المجتمعات الموحّدة المتعددة الثقافات تتلاقح وتتقدّم، ولهذا يقتضي منّا فهم العالم المعاصر المتعدد المتنوّع المتسامح المتشارك المفتوح المتواصل الذي يتّسع للحوار؛ وسيكون مثل هذا المجتمع حاضناً للتنوّع ومشجعاً على التفاعل، على أساس الشراكة والمشاركة في الوطن الواحد في ظلّ حكم القانون، والعدالة، خصوصاً العدالة الاجتماعية، ولذلك فهي ضد الاستعلاء والتمييز والهيمنة وادعاء الأفضليات واحتكار الحقيقة.

ولا بدّ من مصالحة حقيقية بين المواطن العربي ودولته، فلا تشعر هذه الدولة أن المواطن عدوّها بل وإنها تعي أن السلطة تأتي وتذهب لخدمة هذا المواطن، علماً أن هناك خلطاً بين الدولة والسلطة، وأحياناً تتغوّل الأخيرة على الأولى وتحاول ابتلاعها لأغراض سياسية أو دينية أو قومية أو فكرية أو اجتماعية أو اقتصادية أو عسكرية أو شخصية أو غيرها، وقد حكمت المجتمعات منذ فجر التاريخ بواسطة قواعد مدنية واجتماعية ودينية ذات بُعد إيماني وأخلاقي وقانوني، وذلك جزء من منظومة حياتية تعكس درجة تطور المجتمع، علماً أن القانون هو الذي ينظم علاقة الفرد والمجتمع بالدولة ويقوم بالفصل في النزاعات بينها بواسطة القضاء، الذي سيترتب جزاءً لمن يمتثل أو يخالف قواعد القانون بواسطة جهاز تنفيذي (حكومة).

ولا يكفي تسطير المبادئ للمواطنة الحاضنة في الدساتير، بل لا بدّ من نشر ثقافة التسامح والتربية عليها ونبذ التعصب ووليده التطرف ونتاجهما العنف والإرهاب، ويمكن للدولة الحقيقية أن تلعب دوراً جامعاً في تأمين الحق في التعليم المتوازن القائم على أساس قبول التنوّع والتعددية ومبادئ المواطنة المتساوية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"