ليبيا.. تسويات ضبابية و«ميليشيات تركية»

03:45 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد فراج أبو النور*

على الرغم من المحادثات المتعددة بين وفود شرق ليبيا وغربها في عواصم وبلدان كثيرة، من المغرب إلى سويسرا ومن مصر إلى روسيا، وعلى الرغم من القادمة والمغادرة، ومن ضجيج الأخبار المتلاحقة حول الاتفاقات بين الأطراف الليبية، وتقاسم المناصب ومواعيد الانتخابات.. إلخ، فإن أجواء التسوية في لبيبا تبدو ضبابية تماماً ومفعمة بالشكوك وباعثة على كثير من القلق.
أول ما يلفت النظر في كل هذه المحادثات وجداول أعمالها؛ هو غياب القضية الأكثر أهمية بالنسبة لسيادة ليبيا واستقلالها وأمنها القومي، نعني الغزو التركي للمنطقة الغربية من البلاد، وتبعية مختلف الأطراف المتصارعة على السلطة في طرابلس ومصراتة للمحتل العثماني، والاتفاقات غير الشرعية بين حكومة «الوفاق» وأنقرة، سواء حول الحدود البحرية، أو حول التعاون العسكري وما ترتب عليها من سيطرة للقوات التركية على عاصمة البلاد «طرابلس» وقاعدة مصراتة البحرية، والمدينة نفسها، وعلى قواعد جوية عديدة أهمها قاعدة «الوطية» الاستراتيجية غربي البلاد.
كما غابت عن المحادثات قضية أخرى بالغة الأهمية، هي قضية المرتزقة الذين جلبتهم تركيا من سوريا (والصومال جزئياً) والذين يبلغ عددهم نحو عشرين ألف مقاتل إرهابي، علماً بأنه تم الاتفاق بين أنقرة وحكومة السراج على منحهم جوازات سفر ليبية، الأمر الذي يجعلهم خارج المناقشة حينما يأتي أوان بحث موضوع طرد المرتزقة من ليبيا في إطار أي تسوية، ولا يمثل هؤلاء خطراً عسكرياً كبيراً داخل ليبيا فحسب؛ بل يمثلون أيضاً خطراً إرهابياً فادحاً على البلدان المجاورة، بما فيها مصر وبلدان الصحراء الإفريقية؛ بل وعلى أوروبا، من خلال اندساسهم وسط المهاجرين غير الشرعيين.


الاحتياطات المالية


قضية أخرى بالغة الأهمية لم تشملها أجندات المحادثات؛ هي مصير عشرات المليارات من الدولارات، تمثلها الاحتياطات الليبية في الخارج (ويذهب كثير من المراقبين إلى أنها يمكن أن تبلغ مئات المليارات، وتصل التقديرات إلى 300 مليار دولار) منذ عهد القذافي، ومنها ما تم إهداره في صفقات مشبوهة، وما يجرى إنفاقه على المرتزقة ومنها مليارات كثيرة تم إيداعها في المصرف المركزي التركي (8 مليارات دولار) وفي البنوك التركية بمعرفة محافظ المصرف المركزي الليبي (الصديّق الكبير) الذي يسافر إلى أنقرة وإسطنبول ويجتمع بأردوغان وغيره من المسؤولين الأتراك، ويتلقى منهم الأوامر كموظف لديهم.


متمسكون بالغزو ونتائجه


الأكثر من ذلك أن قيادات حكومة «الوفاق» إلى جانب محتليها، سواء في مفاوضات المغرب (مدينة بوزنيقة ) أو مفاوضات سويسرا (مونترو) أعلنوا بوضوح عن رفضهم لمناقشة خروج قوات الغزو التركي، أو إلغاء الاتفاقات الموقعة مع تركيا قبل إجراء الانتخابات المزمعة (بعد 18 شهراً)؛ بل وأعلنوا رفضهم لتشكيل لجنة دولية محايدة لمراجعة الاتفاقات المذكورة؛ («العربية. نت»- و«اندبندنت أرابيا»- 10 سبتمبر/أيلول 2020).
وبالتالي فإن أي حكومة وحدة وطنية وأي هيئات للسلطة بما فيها المجلس الرئاسي الأعلى الجديد المراد تشكيله، كلها ستتولى مهامها في ظل الاحتلال التركي، وبما يعني موافقتها الضمنية على استمراره، كما أن الانتخابات المرتقبة ستجرى في ظل وجود الاحتلال في العاصمة (طرابلس) والغرب الليبي، ليس هذا فحسب؛ بل وأيضاً في ظل وجود الميليشيات الإرهابية وإدماجها في قوات الأمن، علماً بأن موضوع حل الميليشيات المسلحة الإرهابية من «الإخوان» و«داعش» و«القاعدة»- فضلاً عن الميليشيات القبيلة والمناطقية - لم يتم بحثه خلال المحادثات، علماً بأن حكومة «الوفاق» تعد الجيش الوطني الليبي «ميليشيا»، وتطالب بحله.


الشكل والمضمون


ومقارنة بذلك كله فإن كل ما تم الاتفاق عليه في المغرب (بوزنيقة) من إعادة هيكلة للمجلس الرئاسي، وتقسيم للمناصب السيادية بين الأقاليم الثلاثة (برقة وفزان وطرابلس) و«توازن دقيق بينها» إلخ.. وكذلك ما تم الاتفاق عليه في سويسرا (مونترو) من خريطة طريق لمحادثات من المقرر إجراؤها في (جنيف) من اتفاقات تفصيلية على اختيار كل إقليم لممثله في المجلس الرئاسي عبر (مجمع انتخابي) وتوزيع للمناصب السيادية على الأقاليم، وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية خلال 18 شهراً.. إلخ، كل ذلك إنما يتناول قضايا تفصيلية أقل أهمية بكثير- تتصل بشكل الحكم ومؤسساته، وليس بمضمونه وجوهره- أي استعادة الدولة الوطنية ذات السيادة (راجع بنود الاتفاقات في صحف ومواقع 10 سبتمبر/أيلول)، وبعيداً عن المساس بالاحتلال التركي وقواعده وميليشياته الإرهابية، ولا يغير من الأمر شيئاً أن يتم تعيين مبعوثين دوليين، أو أن تشرف الأمم المتحدة على العملية، فكل هذا يتم في إطار الاتفاقات المذكورة أعلاه، وهذا كله بعيداً عن «مبادرة عقيلة صالح» و«إعلان القاهرة» وحتى عن مخرجات مؤتمر برلين، الأقل تحديداً وحسماً.


الاتفاق النفطي


وبالنسبة للولايات المتحدة والدول الغربية الكبرى (وللوفاق وتركيا) فإن مسألة استئناف ضخ النفط الليبي تحتل أهمية مركزية، وقد كان احتلال الجيش الوطني الليبي لحقول النفط في المنطقة الوسطى (خليج سرت/ الهلال النفطي) والجنوبية، ضربة قاصمة لحكومة السراج؛ إذ أوقفت تمويل أنشطتها الإرهابية وقدرتها على القيام بأنشطتها الخدمية، ودفع الرواتب بانتظام، كما تعرضت محطات الطاقة الكهربائية وأنشطة النقل لنقص خطر في إمدادات الوقود، أصابها بما يشبه الشلل، وكان ذلك من أهم أسباب الحراك الشعبي الواسع الذي شهده الغرب الليبي مؤخراً، وكذلك الانقسام في صفوف حكومة «الوفاق».
لذلك اتسم الاتفاق بين حفتر (ممثلاً في نجله خالد) وأحمد معيتيق نائب السراج حول استئناف ضخ النفط الليبي (في مدينة سوتشي الروسية 2020/9/18) بأهمية كبيرة، ويقضي الاتفاق بتقاسم عائدات بيع النفط بنسبة (60% للغرب و40% للشرق والجنوب) مع وضع ضوابط على إنفاق العائدات؛ تشرف عليها لجهة فنية مشتركة من الجانبين، بعيداً عن المصرف المركزي ومحافظه التابع لتركيا؛ بحيث يتم الإنفاق بما يحقق مصالح الشعب الليبي في أقاليمه الثلاثة، وبما يحقق الشفافية.
وعلى الرغم من المرونة التي أبداها حفتر (40% فقط من العائدات للشرق والجنوب) فإن السراج سارع إلى رفض الاتفاق، وكذلك خالد المشري رئيس المجلس الرئاسي الأعلى، وصلاح النمروش وزير الدفاع، وأسامة جويلي قائد قوات المنطقة الغربية، وغيرهم من زعماء «الوفاق» الذين أرادوا الانفراد بعائدات النفط وحدهم، ومنعوا عقد مؤتمر صحفي لمعيتيق للحديث عن الاتفاق، ويشير كل هذا إلى هشاشة أي اتفاق مع «الوفاق» وإلى أن التسوية السياسية في ليبيا لا تزال بعيدة إن لم تكن بعيدة جداً.

*كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"