بريطانيا ودبلوماسية زمن «بريكست»

03:26 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

جونسون يعتمد في مفاوضاته مع بروكسل على استراتيجية التسويف وإضاعة الوقت وكأنه يراهن على تفكك الاتحاد الأوروبي.

تثير مواقف وقرارات الدبلوماسية البريطانية في هذه المرحلة التي تُستكمل فيها المفاوضات النهائية بشأن البريكست، الكثير من التساؤلات بشأن التوجهات الرئيسية للسياسة الخارجية للمملكة المتحدة التي يرى الكثير من المراقبين أنها تتسم بالغموض والتناقض، وأحياناً بازدواجية المعايير في تعاملها مع الكثير من الملفات الدولية، فهي منحازة للموقف الأمريكي المتشدّد فيما يخص التعامل مع الصين وروسيا من جهة، وهي أقرب في المقابل من الموقف الأوروبي بالنسبة للملف النووي الإيراني من جهة أخرى؛ كما يتسم موقفها بشأن أزمة شرق المتوسط بالضبابية، ويبدو في أحيان كثيرة أنها تساوي في تعاملها مع الأزمات الإقليمية بين مواقف مختلف الأطراف المتصارعة؛ اعتماداً على مقاربة سياسية يصفها البعض ب«الانتهازية».

ومن السهل علينا أن نلاحظ على سبيل المثال أن رئيس الوزراء البريطاني جونسون، يعتمد في مفاوضاته مع بروكسل من أجل استكمال إجراءات البريكست، على استراتيجية التسويف، وإضاعة الوقت، وكأنه يراهن على تفكك محتمل للاتحاد الأوروبي الذي يُفترض بالنسبة إليه أن يكون فاقداً لكل رهان حقيقي؛ بعد مغادرة لندن لمؤسساته، وقد سبق له أن أكد أنه سيُنهي إجراءات الخروج من الاتحاد حتى وإن تعذر التوصل إلى اتفاق مع بروكسل، واتهم الاتحاد الأوروبي بتهديد وحدة أراضي المملكة. ويُجمِع معظم المراقبين، استناداً إلى تصريحاته السابقة، على أنه سيكون أكثر حزماً في التعامل مع أوروبا في حال إعادة انتخاب دونالد ترامب لولاية رئاسية ثانية في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل؛ بسبب رهانه الكبير على شراكة استثنائية مع الإدارة الأمريكية الحالية.

وعليه فإنه وعلى الرغم من أن الدبلوماسية البريطانية كانت وما تزال تضبط عقارب ساعتها اعتماداً على مصالحها، وهو ما يفسِّر- جزئياً- التناقض الذي نجده أحياناً بالنسبة لتعاملها مع العديد من الملفات الدولية الساخنة، فإن المتابعين لمسار تطور هذه الدبلوماسية يشيرون إلى وجود جملة من الضوابط التي تتحكم في توجيه السياسة الخارجية لبريطانيا، يمكننا أن نلخصها في النقاط التالية: أولاً، تتمسك لندن برؤيتها المتعلقة بالأحادية القطبية، والتي ترى من خلالها أن الغرب الممثل في تحالف العيون الخمسة، يجب أن يظل هو المتحكِّم في العالم بقيادة الولايات المتحدة، وليس أوروبا التي تفتقد لمؤهلات القيادة؛ لأسباب تاريخية تتعلق بالنزاعات القومية بين دولها، وترى أن المراهنة على قيادة أوروبية رخوة من شأنه أن يقوِّي من فرص دول؛ مثل: الصين والهند وروسيا؛ من أجل قيادة العالم.

وترتبط النقطة الثانية بوجود نزعة قومية قوية لدى المملكة المتحدة، متحرِّرة من أي شعور بالذنب تجاه مستعمراتها السابقة؛ نظراً لنجاحها في فك ارتباطها بتلك المستعمرات بطريقة سلسة؛ وذلك فضلاً عن شعورها بأنها هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي استطاعت أن تصمد في وجه الاجتياح النازي للقارة العجوز؛ الأمر الذي يجعلها تتمسك باستقلاليتها، على الرغم من وجود بعض التوجهات الانفصالية في الداخل، لاسيما بالنسبة للمناطق التي ترفض خيار البريكست؛ مثل: اسكتلندا.

وتكمن النقطة الثالثة بالنسبة للباحثة مونيك ساليو في أن الدبلوماسية البريطانية وحتى قبل استفتاء البريكست سنة 2016 لا تنظر إلى الاتحاد الأوروبي كبديل للهيمنة الأمريكية؛ لكن بوصفه أحد أعمدة هذه الهيمنة إلى جانب مؤسسات حلف الناتو؛ لذلك فقط كانت لندن وما تزال تعترض على محاولات فرنسا وألمانيا بتأسيس جيش أوروبي مستقل عن السيطرة البريطانية والأمريكية. وتتمثل النقطة الرابعة في أن لندن ترى أنها تمارس دور الجسر بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية بحكم علاقاتها الوثيقة مع واشنطن، وقدرتها على التأثير على العديد من الدول الأوروبية، خاصة في وسط وشرق القارة، وبالتالي فهي تقدم نفسها كعنصر توازن رئيسي ما بين ضفتي الأطلسي؛ لكن مع شيء من الحذر في التعامل مع مغامرات واشنطن، لاسيما بعد تجربة غزو العراق.

أما النقطة الأخيرة التي توجِّه الدبلوماسية البريطانية فتتعلق بالحرص الذي تبديه مختلف الحكومات المتعاقبة للعلاقة مع دول الكومنولث، التي ستكون لها أهمية قصوى في مرحلة ما بعد البريكست؛ حيث ستعتمد المملكة على علاقاتها الاستراتيجية مع هذه الدول، وبشكل خاص مع أستراليا وكند والهند؛ من أجل تعويض خسارتها للسوق الأوروبية وتحديداً في حال طلاقها مع بروكسل من دون التوصل إلى اتفاق.

ونستطيع أن نخلص في السياق نفسه إلى أن ملامح الدبلوماسية البريطانية بالنسبة للسنوات المقبلة، ستتحدّد بشكل أفضل مما هي عليه الآن بعد الانتخابات الأمريكية بحكم رهان حكومة جونسون على الوعود التي قدمتها إدارة ترامب للمملكة المتحدة بشأن التعاون الاستراتيجي بينهما، وسيمكننا أيضاً أن نعرف خلال الشهور المقبلة إن كانت بريطانيا ستحافظ على تشدّدها تجاه الصين وروسيا؟ أم أنها ستعدِّل مواقفها في حال بروز تطورات جيوسياسية جديدة في المرحلة المقبلة؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"