العقود الآجلة وســـوق المشتقـــات

02:02 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد الصياد *

مع أن العقود الآجلة في التجارة الدولية في السلع، وخصوصاً الزراعية، تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، إلا أن البيع الآجل للنفط لم يدخل سوق التداول إلا في ثمانينات القرن الماضي

يُنظر إلى سوق العقود الآجلة للنفط Oil Futures Market، على أنه أحد أركان التجارة الدولية للنفط الخام؛ بل إنه غدا، في غضون فترة زمنية قياسية، الركن الأساسي لهذه التجارة الدولية. فمع أن تجارة النفط بدأت بالاتجار السلعي الحقيقي (المادي) لمادة النفط الخام والمنتجات النفطية المكررة، مبكراً، توازياً مع بدء استخراج النفط وتكريره وتصديره في القرن التاسع عشر؛ حيث ظهرت إلى النور أولى مصافي النفط في الولايات المتحدة في عام 1861 (العام الذي اشتعلت فيه الحرب الأهلية الأمريكية واستمرت حتى عام 1865)، وتم على إثر افتتاح تلك المصفاة، تصدير أول شحنة من المنتجات النفطية إلى لندن - مع ذلك فإن السوق الفوري للنفط (Oil Spot market)، يمثل جزءاً ضئيلاً من إجمالي الخام والمعاملات الدولية، اليومية، في المنتجات النفطية، على الرغم من أنه لا يزال يلعب دوراً مرجعياً حاسماً في تحديد الأسعار لمعظم المعاملات الأخرى. ورواد هذا السوق هم في الأساس منتجو النفط الخام، ومصافي التكرير، وشركات التجارة المتخصصة، وكبار الموزعين والمستهلكين للمنتجات النفطية.

ومع أن التعاقدات السلعية المستقبلية (العقود الآجلة)، هي ممارسة قديمة في التجارة الدولية في السلع، خصوصاً السلع الزراعية؛ إذ تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، إلا أن البيع الآجل للنفط، لم يدخل سوق التداول إلا في ثمانينات القرن الماضي؛ حيث تمت لأول مرة صياغة العقود الآجلة التي تستند إلى النفط الخام الخفيف من غرب تكساس الوسيط (WTI) في الولايات المتحدة بعد التوترات في الشرق الأوسط التي أدت إلى ارتفاع أسعار النفط، وعدم اليقين بشأن مستقبلها. في تلك الفترة، قدمت بورصة البترول الدولية، المعروفة اليوم باسم ICE Futures Europe، وهي جزء من مجموعة التبادلات العالمية الأمريكية في بورصة انتركونتيننتال، العقود الآجلة استناداً إلى سعر خام برنت الحلو الخفيف المستخرج من بحر الشمال، وكذلك الحال بالنسبة لزيت الغاز الذي استُخدم في الأساس كزيت تدفئة في أوروبا. وقد تم تصميم هذه العقود الآجلة؛ لتوفير وسيلة للحماية ضد تقلبات الأسعار لرواد سوق النفط الخام.

اليوم، تلجأ الشركات في الولايات المتحدة وبلدان أوروبا وآسيا التي تشتري كميات كبيرة من النفط الخام أو المكرر، مثل شركات الطيران، ومصافي التكرير، للعقود الآجلة للنفط للحماية و«التحوط» من ارتفاع أو هبوط الأسعار وتقلبات السوق التي يمكن أن تحدث بشكل خاص في أوقات الاضطرابات الجيوسياسية حين يغدو العرض النفطي العالمي متقلباً.

إلى هنا والأمور تبدو عادية، لكن مع مرور الوقت، وتساهل جهات الضبط الحكومية (Regulators)، فقد أدى تكالب المضاربين في بورصات تداول النفط العالمية، إلى تحويل العملية برمتها إلى نوع من أنواع مقامرات الكازينو، واستحالت (هذه العملية) إلى إحدى الفجوات الكبيرة في نظام المضاربات المفضية دورياً إلى الفقاعات الخطرة التي أتينا على ذكر بعضٍ منها؛ إذ تحولت العقود الآجلة الى أوراق مالية مشتقة (Derivatives)، معقدة ومفخخة على نحو ما كانت عليه مشتقات الرهن العقاري التي كانت أحد أبرز أسباب انفجار فقاعة 2008. وحتى رواد السوق أنفسهم يعترفون بأن العقود الآجلة (كما المشتقات الأخرى)، تزيد التقلبات في الأسواق المالية، وأنها مسؤولة عن عدم الاستقرار المالي في الأسواق وفي الاقتصاد ككل.

ما يحدث في هذا السوق المستقبلي لتجارة النفط، هو تحويل العقود المبرمة فيه، واقعاً، إلى سندات متعددة التداول، تماماً كما الكمبيالات Promissory Notes، التي يتعهد بموجبها المشتري أو المدين بدفع قيمتها للبائع أو الدائن خلال فترة زمنية محددة في الكمبيالة الممهورة بتوقيع المشتري أو المدين، فيقوم مالك هذا الصك (الكمبيالة) الذي لا يحتمل انتظار موعد استحقاق أجل دفعها، بخصمها؛ أي ببيعها لطرف ثالث عبر إظهارها (Endorsement)، ليقوم حاملها الجديد بدوره بإظهارها إلى طرف رابع وهكذا دواليك.

وعلى ذلك، فإن 5% فقط من قيمة العقود الآجلة للنفط أو أقل من ذلك، هي التي يكون لها بالفعل المقابل السلعي، أما الباقي فهي عبارة عن أوراق مراهنات على السعر المستقبلي للنفط. وهي بذلك مثل المشتقات (Derivatives)، التي لها أصل واحد للدين؛ لكن مالكها الأصلي يقوم ب«تظهيرها»، كما الكمبيالة التي لم يحن موعد استحقاقها، كما أشرنا. وهذا ما يفسر السيناريو الأسود الذي آل إليه مصير خام غرب تكساس الوسيط (WTI)، عندما سجل سعراً سلبياً للمرة الأولى في التاريخ، حين أغلق على 37.63 دولار للبرميل بالسالب يوم 20 إبريل/نيسان 2020؛ حيث وجد تجار النفط أنفسهم عالقين بين زيادة العرض الهائلة وعدم وجود أماكن لتخزينه، فاضطُروا لعرض بيع عقودهم لشهر إبريل الماضي مقابل دفع نحو 38 دولاراً للبرميل للمشترين لتقليل خسائر أفدح؛ بسبب عدم وجود طلب على النفط كسلعة تداولية في تلك اللحظة التاريخية. والحقيقة أن الذي انهار سعره إلى ما دون الصفر ليس النفط كسلعة لها قيمة استعمالية ولها قيمة تداولية (توقفت هاتان الوظيفتان مؤقتاً بفعل إعصار جائحة كورونا المدمر)، وإنما الصكوك الورقية التي أحلها المضاربون في السوق محل سلعة النفط (براميل النفط) الحقيقية.

وهذا عارض واحد من عوارض الاختلالات الخطرة التي تعتور أداء الاقتصاد العالمي، متمثلاً في الفجوة الهائلة بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد الورقي المقامر في بورصات النفط العالمية. وهو عارض لا يبدو أنه سيلقى اهتماماً أفضل مما ناله إبان الأزمة المالية لعام 2008. فمقود الاقتصاد العالمي يميل أكثر إلى عمالقة القطاعين المالي والمصرفي اللذين يتسيدان ملعب الاقتصاد العالمي، وأقل إلى الجهات التنظيمية الحكومية (Regulators) المعنية بالإشراف على أداء هذين القطاعين.

* كاتب بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"