بين السياسة والأدب والعصر

04:46 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.فايز رشيد

نقل الثقافة من عالم الأفكار واهتمامات ذوي الاختصاص إلى عالم الصراع الاجتماعي، هو الذي يعيد صياغة المثقف

السياسة هي فن إدارة شؤون الدولة الداخلية والخارجية، وتُعرّف إجرائياً حسب هارولد لاسويل، بأنها «دراسة السلطة التي تحدد من يحصل على المصادر المحدودة متى وكيف؟. أي دراسة تقسيم الموارد في المجتمع عن طريق السلطة». وعرّفها الشيوعيون بأنها دراسة العلاقات بين الطبقات. وعرّف الواقعيون السياسة بأنها فن الممكن (جورباتشوف)، أي دراسة وتغيير الواقع السياسي موضوعياً! لكن التعريف الأخير هو خضوع للواقع السياسي وعدم العمل لتغييره، بناء على حسابات القوة والمصلحة. من وجهة نظر كارل ماركس فإن السياسة هي اقتصاد مكثف، لذلك فإن السياسة تفرض ذاتها على مناحي الحياة المختلفة.

وفي الموضوع المحدد لا يمكن للأديب أو المثقف أن يبتعد عن السياسة حتى لو أراد ذلك. إن الخلاص من الإشكاليات الكبيرة، والصراعات المذهبية والطائفية والإثنية التي تنخر جسد أكثر من بلد عربي، إضافة إلى أشكال أخرى من الصراعات: سياسية تصل إلى حدود التناقض التناحري في الكثير من الأحيان، وصراعات مختلفة تتخذ أشكالاً متعددة. لذلك، فإن إطلاق المشروع النهضوي العربي يعتمد في تحقيقه واقعاً ليس على السياسيين العرب فقط، وإنما على كل المثقفين باعتبارهم الأداة المهيأة لحمله على كواهلهم, والانطلاق لتنفيذه.

ولذلك ولكي تؤتي الثمار أكلها لا بد من استعراض واقع المثقف العربي في ملامحه السياسية الرئيسية، ذلك أن المثقف النهضوي العربي الأصيل، ومن خلال قراءة الواقع بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبنيوية، يصاب بحالة من الانفصام بين الحقيقة والشكل المُتصوّر أو المُتخيّل في الذهن، لما يتوجب أن يكون عليه هذا الواقع، في الوقت الذي تقتضي فيه عملية التغيير المأمولة، دقة استعراضه كأساس راهن ومستقبلي لا بد من الاستناد إلى كل عناصره الإيجابية الكامنة في الذهنية الجماهيرية، التي يمكن مخاطبتها على طريق محاولة استنهاضها، من أجل ترسيخ الوعي الوطني والقومي كعامل أساسي وشرط رئيسي لإنجاح المشروع.

وحتى اللحظة، فإن تعريفاً محدداً للمثقف لم تجر صياغته، انطلاقاً من الزوايا العديدة التي يتم النظر من خلالها إليه، وانطلاقاً من رؤية دوره إن بالمشاركة في عملية التغيير السياسي أو في سياسة التغيير المجتمعي، فطالما تحدث الفلاسفة والمفكرون عن تعريفات وأدوار شتى للمثقف، ومن بينهم ابن خلدون، الذي أطنب في استخدام مفاهيم مثل (أصحاب القلم) و(الفقهاء) و(العلماء) والذي أفرد فصلاً كاملاً من مقدمته أكد فيها «أن العلماء من بين البشر، هم أبعد ما يكونون عن السياسة ومذاهبها».

ولذلك، فإن نقل الثقافة من عالم الأفكار واهتمامات ذوي الاختصاص إلى عالم الصراع الاجتماعي، هو الذي يعيد صياغة المثقف. ووفقاً لجمال الدين الأفغاني، فإن دور المثقف يتمثل في التأمل في الحاضر من أجل تفسير النبل الانساني وإضاءة الطريق لأبناء أمته، على قاعدة التمتع بالروح النقدية، واستخدامها في مراجعة الماضي. والمثقفون مرتبطون أيضاً في نتاجاتهم، بمدى معايشتهم للواقع من حيث إدراكه ومدى التأثير فيه.

واجب المثقف في متغيرات ما بعد العولمة، التصدي للعولمة الثقافية، التي لا تستهدف الحوار بين الثقافات، بل تسييد الثقافة الغربية، بالطبع بدون التمترس وراء شعارات مثل: دعوى المحافظة على الأصالة التراثية، وإغلاق العيون عن كل جديد، بل يمكن المواءمة ما بين الأصيل القديم وبعض العناصر الإيجابية الجديدة. بالنسبة للأدب، وفقاً لبلزاك وفلوبير، وصولاً إلى الواقعية الاشتراكية، أرسى دعائمه ورسالته الاجتماعية في الحياة بمدى معايشته للواقع.

من أجمل من كتب في الأدب السياسي لويس أراغون، بابلو نيرودا، مكسيم غوركي، ناظم حكمت، لوركا، نيكوس كازانتزاكيس، غسان كنفاني، محمود درويش، سميح القاسم وتوفيق زياد...ظلّ كل هؤلاء خالدين، أكثر من أي سياسيين، سواء في بلدانهم أو على صعيد العالم، وذهب الذين أعدموا البعض منهم وأسيادهم، إلى مزابل التاريخ. لوركا كان يلقي شعره في لحظة إعدامه. ولو فصلنا ما سبق على أرض الواقع نرى انتشاراً متسارعاً للثقافة الهابطة، التي لا تحمل أي معنى، سوى الاستهتار بالقيم ومحاولة تحويل وتحوير اتجاه معركة الثقافة والأدب الرئيس، إلى اتجاه معاكس نقيض، تحت دعاوى كثيرة: الحرية، التقدمية، الانفتاح على الآخر.. وغير ذلك من الشعارات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب وباحث في الشؤون الاستراتيجية، وهو من الخبراء في الصراع الفلسطيني العربي-"الإسرائيلي". إضافة إلى أنه روائي وكاتب قصة قصيرة يمتلك 34 مؤلفاً مطبوعاً في السياسة والرواية والقصة القصيرة والشعر وأدب الرحلة. والمفارقة أنه طبيب يزاول مهنته إلى يومنا هذا

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"