علامات الديمقراطية في الدولة «الأعظم»

02:29 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

الوصول إلى عرش السلطة هدف مشروع لكل من اتخذ من السياسة عملاً، وأضعف الإيمان المشاركة في الحكم أو المعارضة وما تستلزمه من بعض التربص. والوصول إلى الحكم له أساليب مختلفة، ابتداء من تعبيد الطريق إلى الكرسي بالدماء، وعلى أنقاض جثث الناس، وحتى صناديق الاقتراع واحترام كلمتها وتبادل السلطة سلمياً، وليس مجال حديثنا النمط الأول الدموي الذي نتابعه من حين لآخر في دول مختلفة في جهات الأرض الأربع.

نطلق على تبادل السلطة تبادلاً سلمياً، لكنه أبداً ليس كذلك؛ بل يأتي بعد مرحلة من الدعاية التي تسبق الانتخابات يبدع خلالها المتنافسون في النيل من بعضهم البعض، مستعينين بأسوأ ألفاظ قاموس البذاءة والتجاوز والتشكيك في الذمم والقدرات العقلية والاعتداء على الحياة الشخصية والعائلية، وهو ما نلمسه في كل أشكال وألوان الانتخابات ابتداء من انتخابات النقابات ومروراً بالمحليات والبرلمان، لتصل إلى ذروة الذروة في الانتخابات الرئاسية، وهو ما لا يحدث سوى في الديمقراطيات التي تجرى فيها انتخابات حقيقية.

أهم فصول التجاوزات نعيشها حالياً عبر الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي لا يفصلنا عنها سوى أقل من ٣٠ يوماً، وقد سمعنا خلالها من الألفاظ والشتائم المتبادلة بين الرئيس ترامب والمرشح الديمقراطي جو بايدن ما يثير الخجل وأحياناً الاشمئزاز، فالجلوس في المكتب البيضاوي أكبر الأحلام الأمريكية.

المفترض في الدعاية للانتخابات الرئاسية أو غيرها، أن يقدم كل مرشح برنامجه الإصلاحي وخططه لحل مشاكل الناس، ورؤاه حول أزمات الداخل والخارج، لكن ما يحدث غير ذلك، وأصبح الأجدر بالفوز هو من يقنع الناخب بأنه الأقوى بدنياً وصاحب الصوت الأعلى والأقدر على انتزاع حقوق الناخبين حتى ولو بمعسول الكلام وعنيف الحركات وبذيء الألفاظ.

التلاسن بين ترامب وبايدن وصل إلى القمة؛ حيث لم يبخل الرئيس الأمريكي في أن يصف منافسه بالمعتوه والمجنون والدمية الذي ستحتل على يديه قيام الصين باحتلال الولايات المتحدة وتتحكم في قرارها واقتصادها، في حين وصف بايدن غريمه بالفوضوي والأحمق والمتحرش والفاشل، وهذه ليست سوى نماذج قليلة من كثير قيل خلال المناظرة وحملة كل منهما الانتخابية.

المعركة بين ترامب وبايدن، انطلقت من محطة أوكرانيا عندما طلب الأول من الرئيس الأوكراني معلومات يمكن أن تسيء لمنافسه وتتعلق بابنه، وهي الموقعة التي حاولت استغلالها نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب لسحب الثقة من ترامب، وتواصلت الفصول خصوصاً أن البيئة كانت أكثر خصوبة لتبادل الاتهامات والتجاوزات في ظل أزمة جائحة كورونا والفشل الأمريكي في التصدي لها وموقف ترامب المستهين بالفيروس في البداية ثم إصابته به، واحتلال أمريكا رأس القائمة العالمية في الإصابات والوفيات وما تبعه من تشكيك في أساليب إدارة الأزمة ونيل من المنظومة الصحية الأقوى دولة في العالم، إلى جانب التوابع الاقتصادية التي خلقت ركوداً وتسببت بفصل ملايين الموظفين، وبعد أن كان الانتعاش الاقتصادي وفرص العمل سبباً بارتفاع أسهم ترامب، انقلبت الآية وأصبح الركود والبطالة سبباً بانخفاض فرص فوزه بفترة جديدة.

مقتل جورج فلويد والغضب الأسود الذي تحول إلى تظاهرات اجتاحت الولايات والمدن، كان من العوامل التي أسهمت في احتدام الأزمة بين ترامب وبايدن، وأيضاً انسحاب أمريكا من عدد من الاتفاقيات العالمية وهو ما اعتبره الكثيرون اعتداء على القانون الدولي.

التجاوزات اللفظية بين المتنافسين على البيت الأبيض ليس بالأمر الجديد، وإنما يعود إلى انتخابات عام ١٨٠٠ بين توماس جيفرسون وجون أدامز التي كانت بداية الانهيار الأخلاقي في الدعاية، الأمر الذي صار يتكرر كل أربع سنوات وإن بدرجات متفاوتة، حسب شخصية المرشحين، وما نتابعه حالياً هو استكمال لمعارك بدأت داخل الحزب الديمقراطي خلال انتخابات اختيار مرشحه، كما أنه استكمال للمعارك التاريخية بين الحزبين اللذين يحتكران الحياة السياسية الأمريكية سواء البرلمانية أو حكام الولايات أو الرئاسية.

معركة بايدن وترامب لن تكون الأخيرة، ولا ينبغي أن نستغرب وصلة الردح التي تابعناها في مناظرة الثلاثاء الماضي إنما نستغرب أن يكون الانحدار في أسلوب التنافس الانتخابي والسوقية في الألفاظ وتشويه صورة الآخر، من «علامات الديمقراطية» في الدولة «الأعظم»، بينما تعتبر همجية في دول العالم الثالث، دعونا نتفرج ونترقب عسى ألاّ يكون للمعركة ذيول بعد إعلان اسم الفائز.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"