التعليم الخاص ومسؤوليات الدولة

04:10 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز


وقعتْ خصخصةُ قطاع التّعليم - وقد صار لها منذ انطلاق موجتها الكبرى أربعون عاماً- في مجرى سياسات عامّة انتهت إلى التّفويت التّدريجيّ لأملاك الدّولة إلى الخواصّ، وفي جملة ذلك قطاعات حيويّة من الاقتصاد الوطنيّ. جرى ذلك تحت ضغط قوى رأس المال المحلّيّ، وبدعمٍ صريح من صندوق النّقد الدّوليّ والبنك الدّوليّ على ما تشهد بذلك توصيّاته وإملاءاتُه. لكنّ سياسات الخصخصة سيقت - في عمليّةٍ من الدّعاوة الإيديولوجيّة - وبُرِّرت بدعوى رفع بعض الأعباء عن كاهل الدّولة والماليّة العامّة، وإشراك رأس المال الخاصّ في عمليّة التّنميّة ووقف نزوح رؤوس الأموال إلى الخارج. وقيل، في ما قيل، إنّ الخصخصة ستوفّر للنّاس - فضلاً عن الخِدْمات والسّلع وإشباع الحاجات- فرص العمل بما يرفع عن الدّولة أعباء تغطية العطالة المتنامية في أوساط الشّباب خاصّةً.

تلك فصولُ قصّةٍ طويلة لحادثة إخفاق نموذجيْن تنمويّيْن أخذت بهما البلاد العربيّة، وانتهيا بها إلى أفقٍ مسدود: نموذج التّنميّة «الاشتراكيّة» القائم على تدخُّليّة الدّولة في الاقتصاد والإنتاج، وعلى مبدأ التّخطيط المركزيّ؛ ونموذج التّنميّة «اللّيبراليّة» القائم على حرّية المبادرة جنباً إلى جنب مع التّنميّة الدّولتيّة. من حينها، سيتعزّز نفوذ الاستثمار الخاصّ في قطاعات الإنتاج والخِدْمات والاقتصاد والمال والأعمال، بل سيزاحم عمل الدّولة الاقتصاديّ ويخرجُه، أحياناً، من مجالات بكاملها. ومن حينها بات مألوفاً أن تُرفَع العَقَائر مندِّدَةً بتدخُّليّة الدّولة في الميدان الاقتصاديّ، ومتّخِذةً التّدخّليّة تلك دليلاً على «فسادٍ» في نظام اشتغالها، ومبرّراً للمطالبة بمزيدٍ من «الإصلاحات» الاقتصاديّة؛ أي بمزيدٍ من كفّ يد الدّولة عن الشّأن الاقتصاديّ، والكفّ عن تبرير الدّولةِ ذلك بمسؤوليّاتها السّياسيّة (أو السّياديّة) في حماية الحقوق الاجتماعيّة للمواطنين.

بلغة الأمر الواقع؛ ما حَصَل قد حَصَل وفَرَض أحكامه، وذاق منه التّعليم أمَرّ الجرعات من دون أن يحلّ ويربط في أمره شيئاً؛ وآيُ ذلك أنّ أزمة التّعليم ما برِحت تتفاقمُ وتستفحل أوضاعُها الكارثيّة، في بلادنا العربيّة، على الرّغم من مرور أربعين عاماً على خصخصته، ولم يستطع القطاع الخاصّ التّعليميّ أن يوفّر لها حَلاًّ، ولا أن يسجّل فتْحاً وسبْقاً على نظيره (التّعليم العموميّ) في كبح جِماح تصاعُدها. غير أنّ لغة الأمر الواقع تقضي، في الوقت عينِه، بالقول إن التّعليم الخاصّ يحتاج بدوره إلى إصلاحٍ وعلاج لسببٍ هو محدوديّة نتائجه وتواضعها. وهو يحتاج إلى ذلك أكثر لأنّه قطاعٌ ربْحيّ لا يقدّم الخدمة التّعليميّة إلى المواطنين مجّاناً، كما تفعل الدّولة، ومن حقّ دافعي الأقساط أن يطمئنّوا على جدوى مدفوعاتهم. وعلى ذلك، ينبغي أن لا يُمتَّع التّعليم الخاصّ بأيّ حقّ في التّفلُّت من قيود الرّقابة العامّة عليه، المفروضة على التّعليم العامّ، بل الخضوع لها أسوةً بغيره لا بغرض التّضييق عليه، بل بغية ترشيد عمله وتشذيبه ممّا يَعْلق به، أحياناً، من تجاوُزات تطعن في مشروعيّة التّرخيص الرّسميّ به، والأهمّ من هذا وذاك بغية دفْعه إلى أداء الأدوار الاجتماعيّة والمعرفيّة المنتَظَرة منه.

لا بدّ، في هذا الباب، من التّشديد على وجوب إخضاع التّعليم الخاصّ للسّياسات العليا للدّولة في ميدان التّربيّة والتّكوين، لصلةِ هذه بغيرها من السّياسات العليا. لا يكفي توحيد البرامج (مع بعض هوامش الاستقلاليّة)، بل ينبغي مُطابَقةُ هذا التّعليم مع الحاجات والأولويّات التي ترسُمها الدّولة. حتّى الآن يتحكّم بنشاط التّعليم منطقُ السّوق، فيندفع الاستثمار فيه إلى ميادين وتخصّصات بعينها - في مراحل ما بعد التّكوين الإعداديّ- بما هي، في عرفه، الميادين التي يدور الطّلب على تقديم التّكوين فيها. وغنيّ عن البيان أنّه، في ذلك، يضع نفسَه في خدمة نظيره - القطاع الخاصّ لا في خدمة الدّولة.

على أنّ إصلاح هذا التّعليم الخاصّ، وإخضاعه لسياسات الدّولة في التّربيّة والتّكوين لا يكفيان، وحدهما، لإعادة توطينه وطمْأنة المجتمع إليه؛ يتوجّب، إلى جانب ذلك، التّدخّل لإنصاف النّاس من طريق عقْلنة ربحيّته، والحدّ من شططها وجشعها المفرِطيْن، إنّ التّعليم الخاصّ يفرض شروطه على جمهور لا يملك قدرةً على ردّها أو على مدافعة حقوقه؛ والأقساط السّنويّة والشّهريّة المفروضة هي من المغالاة حدّاً لا تقوى عليه القدرةُ الشّرائيّة للفئات العليا من الطبقة الوسطى، اليوم، فكيف بفئاتها الدّنيا وبالطّبقات الفقيرة المعدمة! واليوم، بات على السّياسات الرسميّة أن تجيب عن السّؤال التّالي: هل تريد قطاعاً خاصّاً طفيليّاً للتّعليم أم قطاعاً خاصّاً منتِجاً؛ مقاوَلةً أم مؤسّسةً اجتماعيّة؟ وعلى نوع الجواب عنه يتحدّد نوعُ الأفق الذي تختار.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"