النخب اللامرئية

04:11 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

خلال العقدين الماضيين، وتحت تأثير حركة العولمة، نمت العديد من الظواهر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولم يعد بالإمكان في الكثير من الحالات الركون إلى نظريات مرجعية، كانت سائدة حتى نهاية القرن الماضي، من أجل تفسير الانزياحات الكبيرة التي أحدثتها العولمة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، حدث نمو غير مسبوق في رأس المال المالي، وانتقالات هائلة للأموال، التي عبرت الحدود القومية للدول، وأصبح سوق الأسهم أحد أكبر الأسواق في العالم، وأحد التعبيرات المؤثرة في حركة العولمة ذاتها.

ولم يعد خافياً على متابعي استطلاعات الرأي العالمية، وجود ميل لدى قطاعات واسعة في العالم إلى تفسير الكثير من الظواهر على أنها مؤامرة من النخب العالمية، كما حدث في الأشهر الأخيرة مع تفشي جائحة كورونا، ولا يقتصر هذا التفسير على بلاد بعينها تعاني من نقص في المعلومات، أو من ضبط حكومي لحرية التعبير، بل إن شرائح واسعة من الناس في أمريكا وأوروبا عبرت عن اعتقادها بأن هذه الجائحة هي مؤامرة، وهو الأمر الذي برز في عدد من استطلاعات الرأي، وفي المظاهرات التي شهدتها بعض العواصم الأوروبية، والتي نددت بالإجراءات الحكومية للتباعد الاجتماعي، والقوانين الجديدة الخاصة بالعمل والدراسة عن بعد.

ما الذي يجعل من الاعتقاد بوجود نخبة عالمية متحكمة بالاقتصاد والسياسات أمراً شائعاً على مستوى عالمي؟

يرتبط مفهوم النخبة بعدد من المعايير الرئيسية، تسمح لها بامتلاك النفوذ، ومن تلك المعايير امتلاك الثروة والسلطة والشهرة، وعلى الرغم من حدوث تحولات كبيرة في مفهوم النخبة نفسه، إلا أن المعايير السابقة تبقى الأكثر حضوراً في تعريف النخبة، خصوصاً عندما نتحدث عن التأثيرات الكبرى، والتي تحدث تحولات في البنى، أو في السياسات العالمية، وتؤثر في نطاق واسع، وهو ما لا تمتلكه نخب أخرى، أو تمتلكه بشكل أقل نوعياً، مثل النخب الأكاديمية والثقافية والإعلامية، وبالتالي فإن الميل المتزايد لتفسير بعض الأحداث والتحولات الكبرى بأنها تحدث تحت تأثير نخب عالمية هو أمر له ما يبرره، من الناحيتين النظرية والعملية، لكن يبقى الأمر الذي يحتاج إلى تدقيق هو حقل العلاقات وشكلها الذي يجمع بين نخب من بلدان وجنسيات مختلفة.

لقد كانت مكانة القادة السياسيين تلعب دوراً محورياً في فهم الصراعات العالمية، وتحديد ساحات التنافس العالمي، وفهم المشكلات الناجمة عن الأيديولوجيا، لكن هذا الدور الذي احتله القادة السياسيون في تفسير الأحداث العالمية يشهد تراجعاً لمصلحة ما بات يعرف اصطلاحاً ب«النخبة العالمية»، أو «النخبة اللامرئية»، فقد أضعفت العولمة، وبشكل غير مسبوق تاريخياً، من سيادة الدولة القومية، وتراجع نفوذ النخب السياسية التقليدية، فقد أتاحت العولمة، وللمرة الأولى، أشكالاً جديدة من العلاقات الاقتصادية، ومن ترابط سلاسل الإمداد على مستوى العالم، وهو ما يعني روابط أقوى بين المنتجين العالميين، الذين يضعون خططهم الاستراتيجية على مستوى عالمي، ولم يعد الأمر مقتصراً على الدول القومية وجوارها الإقليمي.

لقد أظهرت جائحة كورونا أن القرارات التي اتخذتها النخب السياسية العالمية كانت بالتنسيق مع النخب الاقتصادية العالمية، وهي نخب لا مرئية بالنسبة إلى الجمهور، لكنها فعلياً شاركت في وضع القواعد الأساسية للتعامل مع الجائحة، بل إن تسريع الخطوات الحاصل في البحث عن لقاح ضد كورونا يتم تحت تأثير النخب الاقتصادية العالمية، من أجل تجنب الخسائر الهائلة في بعض القطاعات، خصوصاً الحيوية منها للاقتصاد، كما أن بعض تلك النخب يحاول اليوم تكريس أنماط استهلاك جديدة، لتحويل الكارثة الصحية العالمية إلى فرص قابلة للاستثمار وحصد المزيد من الثروات، خصوصاً في سوق التجارة الإلكترونية العالمية، ويكفي مراجعة صعود أسهم تلك الشركات في الأشهر الأخيرة لمعرفة العائدات التي جنتها، والتي تقدّر بمئات المليارات من الدولارات.

لا يبدو أن صعود دور وتأثير النخب العالمية غير المرئية قابلاً للارتداد خلال العقود المقبلة، فمفاعيل ثورتي التقانة والاتصالات أصبحت راسخة، لكن ما ينبغي إعادة التفكير فيه هو الأوهام التي بزغت مع بدايات العولمة، مثل «المواطن العالمي»، و«حقوق الإنسان»، و«دمقرطة السياسات»، و«تنوع الثقافات»، وغيرها من المفاهيم التي أعطت العولمة طابعاً وردياً، فالواقع العالمي اليوم يبدو مخالفاً لكل هذه المفاهيم، خصوصاً مع تراجع تأثير القوى التقليدية التي كانت تناضل من أجل الحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية في العالم كله.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"