صراع الحلفاء في شرق المتوسط

01:56 صباحا
قراءة 4 دقائق
إعداد- أحمد البشير:

كان هذا الصيف حاراً بشكل استثنائي في اليونان وتركيا، بمعناه الحرفي والمجازي؛ إذ دفعت أشهر من التوتر حول الحدود وحقوق التنقيب عن الغاز في شرق البحر المتوسط الجانبين إلى حافة الصراع. ومع ذلك، فإن الجهود المتضافرة للمجتمع الدولي، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وألمانيا، حالت دون حدوث مزيد من التصعيد.
خضعت تركيا للضغوط، وعادت إلى طاولة المفاوضات مع اليونان، عازمةً إزالة وصمة «مختلق المشاكل» عن نفسها. إلا أن هنالك الكثير من الأمور التي لا يتفق عليها الطرفان؛ بما فيها ترسيم حدود الجرف القاري لكل منهما في شرق المتوسط ومناطقهم الاقتصادية الخالصة ومجالهم الجوي فوق بحر إيجه. ولا تتعلق أزمة التنقيب في شرق البحر المتوسط على هاتين الدولتين وحسب؛ حيث إن هنالك أطرافاً أخرى؛ مثل: مصر وإيطاليا؛ إذ لهما علاقة بالأزمة، إضافة إلى تضمنها لأبعاد سياسية متشابكة.
ولدى منطقة شرق البحر المتوسط أهمية كبيرة منذ القدم؛ إذ كانت نقطة عبور تجارية واستراتيجية عبر التاريخ بالنسبة لليونانيين والفرس والمصريين والفينيقيين والرومان وسفنهم الحربية.
وبدأ الاهتمام بمنطقة شرق المتوسط باعتبارها منطقة غنية بالنفط والغاز في أواخر القرن العشرين؛ إذ قدر تقرير هيئة المسح الجيولوجية الأمريكية في عام 2010 وجود 3455 مليار متر مكعب من الغاز، و1.7 مليار برميل من النفط في هذه المنطقة الغنية. وبخلاف الثروة الطبيعية، تمثل هذه المنطقة أبرز نقاط عبور البترول والغاز من الشرق الأوسط إلى دول الاتحاد الأوروبي؛ إذ إنها تطل على ثلاث قارات.
وخلال الحرب الباردة وبعدها، كانت ولا تزال هناك خلافات حول الحدود البحرية ومشاحنات حول أحقية الموارد الطبيعية، إلى جانب ضغوط جيوسياسية أخرى بالنسبة للعلاقات غير المستقرة بين اليونان وتركيا وإسرائيل وقبرص وسوريا.

صراع على الثروات

وينبع الاضطراب الحالي إلى حد كبير من اكتشاف رواسب ضخمة من النفط والغاز الطبيعي في قاع البحر، ويقدر أن حجم النفط المكتشف يبلغ نحو ملياري برميل، و4 تريليونات متر مكعب من الغاز الطبيعي، وتتحرك دول المنطقة بشكل طبيعي؛ لاستغلال هذه الثروات. وفي يناير/ كانون الثاني من عام 2019، شُكّل كونسورتيوم للتنقيب عن الموارد يتألف من إسرائيل ومصر وإيطاليا واليونان والأردن والسلطة الفلسطينية، من دون إشراك تركيا.
وهذا الأمر أثار سخط الأتراك؛ إذ أرسلت حكومة أنقرة سفن التنقيب عن النفط والحفر برفقة سفن حربية تابعة للقوات البحرية التركية. ودخلت سفينة التنقيب «أورتش رئيس» ما تعده اليونان مياهها الإقليمية، خلال الصيف، ما رفع التوترات إلى مستوى جديد، ودان الاتحاد الأوروبي هذه التدخلات والاعتداءات التركية.
يشار هنا إلى أن عمليات التنقيب في شرق المتوسط تديرها شركات إيطالية وفرنسية وأمريكية وروسية، وهذا ما يضع دول هذه الشركات داخل دائرة التنافس الاقتصادي على الآبار المكتشفة. ويسعى الاتحاد الأوروبي كذلك إلى تعزيز أمن الطاقة؛ عبر تنويع مصادر الواردات، وتنويع طرق التوريد؛ إذ يُسهم غاز شرق المتوسط في تخفيف الاعتماد شبه الكلي لدول شرق وجنوب أوروبا على روسيا، ولهذا يحرص الاتحاد على تحقيق أقصى استفادة ممكنة من المنطقة. كما يهتم الاتحاد الأوروبي بمصالح الدول الأعضاء؛ مثل: قبرص واليونان.

خلافات حدودية

ونقطة الخلاف الأخرى في هذا الملف الشائك هي بين اليونان وتركيا حول ترسيم الحدود الإقليمية في بحر إيجه؛ حيث اقترح رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس توسيع حدود بلاده في البحر الأيوني على طول ساحلها الغربي من 6 أميال بحرية إلى 12 ميلاً بحرياً، وقد حذر الأتراك من أنه إذا حاولت أثينا توسيع حدودها بالمثل شرقاً؛ أي في بحر إيجه نحو تركيا، سيكون ذلك سبباً لاشتعال حرب بينهما.
ويبدو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يراهن على استقرار بلاده وأمنها الاقتصادي عبر «قعقعة السيوف»؛ إذ إن الحرب الكلامية بين بلاده من جهة واليونان وقبرص من جهة أخرى مستعرة منذ أشهر. وفي هذه الأثناء هدد الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على أنقرة؛ بسبب أفعالها غير القانونية في المنطقة.
كما دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى وقف الإجراءات العدائية التركية، مشيراً إلى أنها خط أحمر لا يجب تجاوزه.
ومن المحتمل أن يكون الخلاف بين تركيا واليونان هو الأخطر منذ عقود، كما يأتي في وقت تمر فيه تركيا بأزمة اقتصادية حادة مع انخفاض قيمة الليرة التركية، إلى مستوى قياسي منخفض.
وتقول المعارضة التركية: إن أردوغان يحاول تشتيت انتباه الناس عن المشاكل الاقتصادية للبلاد، ويعتمد بشدة على مشاعرهم الوطنية؛ من خلال خلق «أعداء خارجيين»، كما أنه يسعى إلى تعزيز حكم الرجل الواحد، مما يضعف الديمقراطية التركية خلال هذه العملية.

انقسام الحلفاء

إن السيناريو برمته في منطقة شرق البحر المتوسط، يصب في مصلحة روسيا، لكنه في نفس الوقت يتسبب في حدوث انقسامات خطرة في حلف الناتو، التي تعد تركيا عضواً بارزاً فيه. ولم يكن هناك أي انسجام بين اليونانيين والأتراك في الاتفاقات السياسية؛ لكن نادراً ما تشتد الخلافات بينهما لتصل إلى هذا الحد، وتصطف فرنسا بقوة مع أثينا، في حين يحاول الألمان التوسط في المسألة.
ونظراً لأن تركيا تشعر بأنها تبتعد شيئاً فشيئاً عن الناتو والاتحاد الأوروبي، فإن ذلك يعزز نزعة أردوغان للعمل مع روسيا، على الرغم من خلافاتها في الشأنين السوري والليبي، ويجعل بلاده أكثر ميلاً لشراء أسلحة متطورة من موسكو، كما فعلت عندما اشترت أنظمة الصواريخ «أس 400».
الولايات المتحدة تحاول العمل كوسيط بين تركيا واليونان وفرنسا وقبرص، وبالفعل اتخذ وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو خطوة عندما زار قبرص واليونان مؤخراً؛ إذ أشار إلى الحاجة إلى حل النزاعات سلمياً، داعياً الأطراف المعنية إلى عدم تصعيد التوتر.
إن حدوث أي مواجهة بحرية ينتج عنها إطلاق سفن حربية تابعة للناتو النار على بعضها؛ تبدو نتيجة سيئة لا يمكن تصورها، إلا أن ذلك يبقى احتمالاً لا يمكن استبعاده، في حين يرى خبراء أن المنطقة قد تدخل في حرب باردة تشهد معارك اقتصادية وإعلامية وسياسية، وربما تشهد أيضاً تدخل وكلاء محليين في الشأن الداخلي للدول.
ولا يشير التاريخ إلى سبب للتفاؤل؛ إذ تبقى مياه البحر الأبيض المتوسط مصدراً للخلاف، وأحياناً أخرى تعد مصدراً للمخاطر الجيوسياسية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"