صراع الجغرافيا السياسية في كاراباخ

03:52 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد السعيد إدريس

تعني الجغرافيا السياسية تقليدياً، علاقة التفاعل المتبادل بين الجغرافيا والسياسة. وقد تطورت مجالاتها لتشمل دراسة الوحدات السياسية؛ أي الدول من منظور موقعها الجغرافي، وتشابك جغرافية الدول ببعضها بعضاً، وما تمثله الجغرافيا للدول من عناصر قوة وما تفرضه من عناصر ضعف. فالجغرافيا السياسية للدولة تعتبر أحد أهم محددات تفاعل الدولة مع الدول الأخرى المجاورة، خاصة في حالة تشابك وتداخل الحدود البرية أو البحرية أو للتداخلية معاً، وفي حالة ما إذا كانت للدولة إطلالات بحرية تيسر تعاملها مع الدول الأخرى، أم هي دولة مغلقة؛ أي ليست لها حدود خارجية بحرية، ما يجعل اتصالها بالبحار مرتبطاً بالشروط التي تضعها الدول المجاورة للمرور في أراضيها باتجاه البحار.

ويزداد الأمر تعقيداً في حالة التداخل العرقي بين الدول، خاصة إذا كان هناك وجود لتمركز عرقي ما، داخل إحدى الدول، تربطه علاقات عرقية مع شعب دولة مجاورة، وهذا هو بالتحديد جوهر الأزمة المتفجرة الآن بين جمهوريتي أرمينيا وأذربيجان في إقليم جنوب القوقاز حول المقاطعة المسماة ب«ناجورنو كاراباخ» التي تشبه كثيراً الأزمة المتفجرة تاريخياً بين باكستان والهند حول إقليم كشمير المتنازع عليه بين الدولتين.

فأذربيجان تؤكد أن إقليم ناجورنو كاراباخ جزء لا يتجزأ من أراضيها، في حين تؤكد أرمينيا أنه ينتمي إليها؛ لأن أكثر من 90% من سكانه من المسيحيين الأرمن، ولا علاقة لهم بشعب أذربيجان المسلم، تماماً كما هو الصراع في إقليم كشمير الذي تؤكد الهند أنه جزء لا يتجزأ من الجغرافيا الهندية، في حين تؤكد باكستان أن شعب الإقليم باكستانيون مسلمون.

المشكلتان تعكسان بدرجة كبيرة حجم الجرائم التي ارتكبتها الدول الاستعمارية الكبرى عندما تعمدت فرض حدود بين الدول الخاضعة لاستعمارها، تضمن استمرار الصراع بين هذه الدول وتحول دون استقرارها، وتجعلها دائماً في حاجة إلى دعم ومساندة هذه الدول الاستعمارية.

بريطانيا عندما انسحبت من الهند عام 1948 وقسمت الأراضي الهندية، فعلت ذلك بين الدولة الباكستانية الجديدة وبين الهند، وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي (خاصة في عهد ستالين) فعلت ذلك بأذربيجان وأرمينيا، وكان التطهير العرقي الذي ارتكبه ستالين أحد أهم أسباب نشوء هذه المشكلة بين الدولتين، فهو الذي أعطى إقليم كاراباخ لأذربيجان، وهو الذي فرغ الإقليم من سكانه المسلمين الأذاريين ونقل المسيحيين الأرمن من أذربيجان إلى هذا الإقليم.

ويعتبر الصراع بين أذربيجان وأرمينيا حول إقليم كاراباخ الذي لا تزيد مساحته على 4800 كيلومتر مربع، ولاعدد سكانه على 145 ألف مواطن يعتبر صراعاً ممتداً، يهدأ أحياناً ويشتعل فى أحيان أخرى حسب تطورات توازن القوى بين أذربيجان وأرمينيا، ومستوى التحالفات السياسية لكل منهما، والأهم هو توافق أو تعارض القوى الدولية الكبرى خاصة روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتوافق أو تعارض القوى الإقليمية، خاصة تركيا وإيران، إضافة إلى إسرائيل التي استطاعت أن تصل إلى أذربيجان مع تغلغل النفوذ الأمريكي في هذه الجمهورية عقب استقلالها عن الاتحاد السوفييتي بعد تفككه.

كانت العلاقات بين جمهورية أذربيجان وجمهورية أرمينيا في ظل كونهما جمهوريتين سوفييتيتين علاقات الأقاليم داخل الدولة الواحدة، حيث كانت سطوة الحكم السوفييتي أقوى من أي عامل آخر، لكن عقب انهيار الاتحاد السوفييتي وخروج هاتين الجمهوريتين من الرابطة السوفييتية تفجر الصراع العنيف بينهما حول إقليم كاراباخ، وهو الصراع الذي وصل إلى ذروته في مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي، ما أدى إلى حرب تسببت في سقوط 30 ألف قتيل، ولم تسفر عن توقيع أي اتفاق سلام بين البلدين، ما أدى إلى وجود ألغام قابلة للانفجار إذا وجدت الصاعق الذي يحقق ذلك، على النحو الذي حدث هذه الأيام وبالتحديد ابتداء من 27 سبتمبر/أيلول الماضي، الذي أضحى يهدد باندلاع حرب إقليمية يمكن أن تتورط فيها القوى الدولية والإقليمية في ظل الصراع على النفط والغاز، وفي ظل طموحات الرئيس التركي في هذا النفط، وتعارض ذلك مع المصالح الأمريكية والإسرائيلية في أذربيجان.

وعلى الجانب الآخر تقف إيران ذات الحدود المشتركة مع الدولتين، لكن تربطها بأذربيجان علاقات تداخل بشري، فإذا كانت أذربيجان يعيش فيها 6 ملايين شخص ينتمون إلى القومية الآذارية (ذات الأصول التركية)، فإن إيران يعيش فيها 8 ملايين آذاري في الشمال الإيراني على تماس مع أشقائهم الآذاريين في أذربيجان، لكن أذربيجان تحولت بعد استقلالها عن الاتحاد السوفييتي إلى دولة مناوئة لإيران، وأشبه بقاعدة عسكرية واستخباراتية للولايات المتحدة، ما جعل إيران أقرب إلى أرمينيا المسيحية منها إلى أذربيجان المسلمة والشيعية.

وإذا كان الأمريكيون موجودين بكثافة في أذربيجان، فإن روسيا تربطها معاهدة دفاع مشترك مع أرمينيا، وهكذا نجد روسيا وإيران أقرب إلى أرمينيا في هذا الصراع، في حين أن الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا إلى جانب أذربيجان؛ كل له دوافعه ومصالحه، على نحو بات يهدد بتحول الصراع هذه المرة، إلى حرب جديدة في إقليم القوقاز الجنوبي، البطل فيها هو الجغرافيا السياسية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"