عادي

الاقتصاد العالمي إلــى الموجــة الثانيــة

21:21 مساء
قراءة 4 دقائق
الصياد

د. محمد الصياد

على مدار تسعة أشهر صمد الاقتصاد العالمي أمام عاصفة «كوفيد  19» الهوجاء التي أجبرته على التراجع على صُعد الإنتاج والاستهلاك والاستثمار ترتيباً. صمد بفضل حزم الإنقاذ المالية الضخمة التي تم صبها في دواليبه. وكان الأمل في أن تنقشع عاصفة الوباء، لتتمكن الوحدات الاقتصادية من إعادة تشغيل طاقاتها المعطلة منذ مطلع العام الجاري عملياً، لكن ما حدث هو عكس ما هو مأمول. 

فالفيروس يواصل عدوانه بنفس الشراسة، مطلقاً موجته الهجومية الثانية، ومجبراً العديد من الحكومات في العالم على إعادة العمل بنظام الإغلاق الجزئي (وبعضها مهدد بالإغلاق التام)، بعد أن كانت خففت إجراءات الإغلاق وفتحت جميع منشآتها وأنشطتها الاقتصادية، بما في ذلك المراكز التعليمية.

بعد هذا الصمود، ها هي شركة «رويال داتش شل» الهولندية البريطانية النفطية العملاقة، تقرر التخلص من حوالي 9000 وظيفة بحلول عام 2022؛ أي ما يشكل 11% من قوتها العاملة نتيجة لانهيار أسعار النفط وفقدان الأمل في تحسن السوق، واعتقاد البعض بأن عصر نمو الطلب قد انتهى بالفعل، وهو ما أدى إلى تسريع عملية تحويل أعمال الشركة باتجاه الطاقة المنخفضة الكربون. كما تعتزم شركة «شيفرون» تقليص ما بين 10 و15% من قوتها العاملة عبر العالم، بينما تقوم شركة «إكسون موبيل» بمراجعة التوظيف في كل دولة على حدة. وقد قررت بالفعل، في ما يتعلق بعملياتها في أوروبا، شطب 1660 وظيفة في عام 2021 القادم، بعدما عصفت جائحة «كوفيد  19» بالطلب على منتجاتها وتراجع أسعار الخام.

كما ستقوم شركة ديزني الأمريكية بتسريح 28 ألف موظف في الولايات المتحدة الأمريكية، من إجمالي عدد الموظفين الأمريكيين العاملين في قطاع أعمال المتنزهات والمنتجعات البالغ عددهم 100 ألف موظف، بعد أن تسببت جائحة كورونا بأضرار كبيرة للقطاع. 

جدير بالذكر أن قطاع السياحة ومن ضمنه كافة الشركات والأفراد العاملين في أنشطة الترفيه، وكذلك قطاع النقل، هما أكثر القطاعات في العالم تضرراً من الجائحة. أصحاب شركات الترفيه استمروا في السوق على الرغم من الإغلاق، بفضل الدعم الذي صرفته الحكومة، لكنهم يطالبون اليوم بتمديد حزمة الدعم من أجل تمكينهم من مواصلة الصمود، وعدم الاضطرار لتسريح موظفيهم أو الإغلاق في أسوأ السيناريوهات.

في مارس الماضي؛ أي مع بداية الإغلاقات، كانت منظمة العمل الدولية قد توقعت أن تزداد أعداد العاطلين عن العمل في العالم بحوالي 25 مليون عامل وموظف. وفي تقييم آخر، في يوليو الماضي، قدّرت المنظمة أن حوالي 400 مليون وظيفة بدوام كامل قد فُقدت في العالم في الربع الثاني من العام الجاري، بسبب الوباء. وقَدّرت أن الخسائر في الوظائف في الربع الرابع من العام، ستبلغ حوالي 140 مليون وظيفة بدوام كامل. ووفقاً لسيناريو متشائم، يتعلق باحتمالية حدوث موجة ثانية من الوباء (وهو ما هو حاصل الآن على أية حال)، قد يرتفع هذا الرقم إلى 340 مليون وظيفة.

ويزداد القلق العالمي على مصير ملايين الوظائف، بتحول خسارة الوظائف المؤقتة إلى خسارة دائمة، مع دخول بلدان عديدة في أوروبا وآسيا، وكذلك روسيا والولايات المتحدة، الموجة الثانية من الوباء. الموجة الأولى استمرت حوالي ستة أشهر، منذ مارس حتى أغسطس. ونظراً لعدم وجود ما يؤشر إلى قرب طرح أول لقاح للبيع في الأسواق، فلا يتوقع أن تقل فترة الموجة الثانية عن فترة الموجة الأولى. 

فهل يستطيع الاقتصاد العالمي الصمود حتى نهاية الربع الأول من العام المقبل؟ حتى الآن تبدو الإغلاقات جزئية في الدول التي ضربتها الموجة الثانية، ويمكن أن تتحول إلى إغلاقات كاملة في حال تصاعدت أعداد المصابين. وبناء على تجربة الإغلاقات الأولى، فالمؤكد أن الإدارات الاقتصادية الكلية في جميع البلدان، لابد أن تكون قد استفادت من دروس الأشهر العصيبة الماضية، بما يمنحها فسحة أرحب للتكيف مع الفترة الصعبة القادمة، ومقاربات استيعابها، لكن ليس من دون مفاقمة الأحوال المالية والاجتماعية المعسرة للدول ومجتمعاتها، الناتجة عن حالة الجمود الاقتصادي القسرية، خصوصاً أن «فضيلة» التكيف المكتسبة، لا تشمل  على سبيل المثال  شرائح عديدة من الأعمال التي تصعب مزاولتها عن بعد (أون لاين)، تماماً كما في البورصات، حيث تعتبر تحركات كبار اللاعبين في السوق أحد المؤشرات الحاكمة لحركة التداول، فإن أحد المؤشرات القياسية لأداء الاقتصاد العالمي التي تعتبر مرجعية لكافة الاقتصاديين والمحللين الماليين، والمشتغلين بالشأن الاقتصادي بوجه عام، هو ذلك المتعلق بطبيعة أداء الاقتصاد الأمريكي. 

فهو يجمع في ثناياه بين قوة العملة الأولى في العالم، وقوة أسواقها المالية، وقوة وعمق سوقها الاستهلاكي الداخلي؛ لذلك فقد كان من الطبيعي أن ينظر كل أولئك المشتغلين بالشؤون الاقتصادية  بنوع من عدم الارتياح  للتوقعات التي أدلى بها رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول في يونيو الماضي، ومفادها أن سياقات الأحداث تشي بأن تترك البنوك المركزية للولايات أسعار الفائدة بالقرب من الصفر حتى عام 2022، وذلك بسبب ارتفاع معدل البطالة إلى أعلى مستوى منذ الكساد الكبير. 

الإبقاء على هذا المستوى المنخفض من سعر الفائدة، يجب ألا يعتبر استثناء أو خارقاً للعادة؛ بل إنه موقف واقعي بحسبان شراسة هجمة الفيروس على الاقتصادات القومية، وإنما العامل النفسي المعبر عنه ها هنا، ينصرف إلى ما ينطوي عليه وقع طول الفترة على الأسواق وعلى روادها، ناهيك عن عدم اليقين بشأن ما بعدها (ما بعد سنة 2022 التي «حددها» الاحتياطي الفيدرالي كإطار زمني متوقع لاستمرار سياسة «التسهيل التمويلي» الصفري.

لذا يكون الخيار المتاح أمام الإدارات الاقتصادية الكلية في بلدان العالم قاطبة، المتقدمة منها والنامية على حد سواء، هو أنه لا خيار أمامها سوى خيار واحد، هو الصمود مرة أخرى في وجه الموجة الثانية من الوباء، وذلك بمزيج من سياسات الضبط الانفلاقية المحسوبة، والتمويل العجزي للنمو في حالة الدولة التي لم تتحسب لتوفير «القرش الأبيض لليوم الأسود»، على أمل السداد بعد التعافي، وإنما ضمن سياق مختلف من الشفافية والحوكمة.

*كاتب بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"