العراق الذي يستدرك الغياب

01:53 صباحا
قراءة 3 دقائق

سليمان جودة

لا سامح الله الذين أسهموا بأي نصيب في وضع الدستور العراقي الحالي، الذي يصنف المواطنين العراقيين بين مواطن سني، وآخر شيعي، وثالث كردي. 

لا سامحهم الله ولا بارك لهم؛ لأنهم تصوروا أن هذه هي الديمقراطية التي جاء الغزو الأمريكي يبشر بها في 2003، فإذا بها جحيم يحرق البلد ومواطنيه في كل نهار. لقد عشنا نعرف أن العراق عراق واحد، وأن مواطنيه متساوون في ما عليهم وما لهم، وأنه لا فرق بين المواطن شمالي العراق وبين المواطن في جنوبه أو وسطه، إلا بالقدر الذي يخلص به كل واحد منهم لوطنه، وإلا بالقدر الذي يكون ولاؤه فيه للوطن دون سواه. 

عشنا نعرف هذا ونتابعه، وعشنا نعرف أن صيغة المواطنة هي الصيغة الأفضل، إذا ما كان الهدف هو تماسك الوطن، وإذا ما كان الهدف هو استعصاء البلد على كل محاولات شق وحدة أبنائه، وكذلك كل محاولات السعي إلى الفتنة بينهم. 

 ولا بد أن أسوأ شيء في أي دولة، هو أن يجري تصنيف المواطنين على أي أساس، بخلاف أساس الجنسية التي يحملها كل فرد منهم في بطاقة الهوية. وفي حالة العراق الذي هو موضوع هذه السطور، فإنني أتصور أنه يكفي جداً، أن يكون المواطن هناك عراقياً. يكفي أن يكون كذلك ليتساوى الجميع في الحقوق التي على الحكومة أن تقدمها لهم، وفي الواجبات التي على كل حامل للجنسية أن يؤديها. 

أقول ذلك وأنا أتابع ما جرى مؤخراً من إضرام النار في مقر الحزب الكردستاني في بغداد، ومن اختطاف 12 مواطناً في محافظة صلاح الدين، ثم قتل 8 منهم دون أن يرمش للقاتل جفن. 

أقول ذلك وأحزن عندما أطالع أن الحزب المحترق هو حزب كردي، ولو أنصف الذين وصفوه بأنه كردي لكانوا قد قالوا إنه حزب عراقي؛ لأن المواطن الكردي حتى ولو تمسك بهده الصفة لأسباب قد تكون مفهومة، فإنه عراقي قبل أن يكون كردياً. 

فالعراقية باعتبارها جنسية، وباعتبارها هوية، ثم باعتبارها ملمحاً رئيسياً للشخصية في أرض بابل، هي شيء عابر للأشخاص والأفراد وكل الكيانات التي تفصل ولا تدمج؛ تفرق ولا تجمع، تباعد ولا تقرب. العراقية هي طائر يحلق فوق كل هذا فيتجاوزه، ويقفز فوقه ولا يتوقف عنده في كل الأحوال. 

أقول ذلك كله ويؤلمني كما يؤلم كل عربي أصيل بالضرورة، أن يقال عن الضحايا الثمانية إنهم من السنة العراقيين، وكأن كونهم كذلك هو الذي جعل منهم ضحايا، بدلاً من أن يكونوا مواطنين يتمتعون بكل ما تفرضه المواطنة من مقتضيات بين أبناء الوطن الواحد. 

أتابع كل هذا وأزداد إشفاقاً على مصطفى الكاظمي، الذي تولى موقع رئاسة الحكومة قبل أشهر معدودة على أصابع اليد الواحدة. فالكاظمي رجل أمن ومعلومات في الأساس، وهو يعرف أن بلداً يواجه مثل هذه الأحداث، هو بلد بحاجة إلى أن يتلقى علاجاً شافياً من آفة قاتلة للأوطان؛ آفة الطائفية التي تصنف الناس حسب أشياء لا تصلح لقيام الأمم. 

والظاهر أن إحراق مقر الحزب في العاصمة، وقتل المواطنين الثمانية، وكذلك استهداف مطار أربيل في الفترة نفسها، هو من نوع تعويق الرجل عن المضي نحو مهمته في ترميم البلد، ليكون بلداً ذا سيادة على أرضه كلها، فلا تنازعه عليها قوة أخرى دولية أو إقليمية. 

الكاظمي يبدو مما يفعله منذ تولى المسؤولية، راغباً في أن يعيد العراق الذي كنا نعرفه، العراق الذي لا يعادي إيران ولا يقبل منها تدخلاً في شأنه، العراق الذي يتصرف في محيطه الإقليمي وفق عروبته التي لا يمكنه التخلي عنها ولا التفريط فيها، العراق الذي يرغب في تعويض ما فاته في سنوات الغزو وانقسام الداخل؛ العراق الذي يسعى إلى استدراك سنين من الغياب في المنطقة وفي الإقليم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"