هل كان البحتري سارقاً؟

01:39 صباحا
قراءة دقيقتين


د. حسن مدن

هل سرق البحتري شعره من سابقيه، ولم يأت بجديد شعري، فجل شعره مأخوذ من أبي تمّام؟ لم يوجه الأقدمون هذه التهمة للبحتري وحده، الذي زعموا أنه «سرق من أبي تمام وعاش على فتات المائدة الذي خلّفه»، بتعبير الدكتور شوقي ضيف، بل إن التهمة طالت أبا تمام نفسه، فعنه قالوا أيضاً إنه كان يحوّر معاني السابقين، ويمكن أن تعمم هذه التهمة لتطال شعراء كباراً آخرين، وفق ما نفهمه من الدكتور ضيف نفسه، عند معالجته لقضية السرقات الشعرية عند الأقدمين، التي يبدو أنهم انشغلوا بها أكثر مما انشغلوا بالشعر نفسه، مبنى ومعنى.
لم يتناول شوقي ضيف الموضوع من الباب الذي يمكن لغيره من الباحثين أن يلجوه، ليجدوا فيه جوانب من الطرافة والفضول، بالتفتيش في شعر البحتري أو أبي تمام مثلاً، للإمساك بما أخذه التالي من السابق أو من السابقين عامة من الشعراء، بل إنه أوشك على القول إن سجالاً مثل هذا يدخل في خانة العبث والتسلية.
بدءاً ينبغي التنويه بأن ضيفاً لا ينفي أن البحتري كان يأخذ معاني أبي تمام، ولكن هذا لا يعني أنه سرق شعره، فالمعاني، حسب الجاحظ، ملقاة على قارعة الطريق، لا حقّ لأحد في ادعاء أنها ملك له وحده، لمجرد أنه تناولها فيما كتب، أكانت كتابته شعراً أو نثراً. المعاني هي نفسها في كل الأمكنة والأزمنة، أو تكاد أن تكون كذلك، ولكن طرائق تناولها وصور تجليها في نصوص الشعراء والأدباء هي التي تختلف.
البحتري حين أخذ معاني أبي تمام كان يضيف إليها «من التحوير في الأصوات ما يلذنا ويمتعنا»، والتعبير هنا لشوقي ضيف نفسه، لأنه، أي البحتري، يخلق جواً خاصاً به غير ذاك الذي كان لأبي تمام، وهذا الأخير الذي قيل عنه أيضاً إنه يأخذ معاني السابقين، كأنه يُحوّر في مبناها، من حيث الموسيقى والأصوات، وفي معناها من حيث التفكير وفلسفة المعاني.
«لا توجد كتابة خارج الكتابة»، هذه عبارة سمعتها من الناقدة اللبنانية المعروفة الدكتورة يمنى العيد في أحد الملتقيات الأدبية التي نظمها اتحاد أدباء وكتاب الإمارات بالشارقة، في مطالع التسعينات الماضية، وهي تصب في المعنى نفسه، أي أن الأديب أو الشاعر لا ينطلق، وهو يكتب، من نقطة الصفر أو العدم، وإنما مما كتب قبله. أليس قريباً من هذه الفكرة قول شاعرنا الكبير محمود درويش: «والطريقُ هو الطريقةُ/ رُبَّما نَسِيَ الأوائلُ/ وَصْفَ/ شيء ما، أُحرِّكُ فيه ذاكرةً وحسّا»؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"