كبريات شركات التكنولوجيا

00:35 صباحا
قراءة 3 دقائق

أحمد مصطفى

يتعين النظر للدعوى التي رفعتها وزارة العدل الأمريكية على شركة «جوجل» على أنها بداية حملة منظمة تستهدف شركات التكنولوجيا الكبرى، وليس فقط مجرد قضية تتعلق بالاحتكار وانتهاك قواعد المنافسة الحرة. صحيح أن الدعوى لم تطلب من المحكمة «تفكيك» «جوجل» العملاقة إلى شركات منفصلة لتفادي ممارساتها الاحتكارية، وإنما ركزت على صيغ العقود الاحتكارية التي تُبرمها «جوجل» مع الشركات التي تستخدم تكنولوجياتها أو مصنعي هواتف الموبايل، لتضمن الدفع بمنتجاتها الأخرى من محرك البحث وما يحمله من إعلانات إلى منصة إعلاناتها «آدسنس» التي تروج لمنافذ التسوق الإلكتروني التابع لها «جوجل شوبنج».

وفي صلب القضية الفيدرالية تعاقد «جوجل» مع شركة «أبل» للهواتف الذكية  حسب الدعوى  ينتهك قواعد المنافسة بما لا يسمح لشركات أخرى لديها مواقع بحث بالوجود على هواتف «آيفون». ويمثل ذلك حرماناً لهؤلاء المنافسين من عائدات إعلانات بالمليارات. وتبدو القضية لتركيزها على جزئية محددة، أشبه بالقضايا التي رفعت على «جوجل» في أوروبا وأدين فيها عملاق التكنولوجيا بالممارسات الاحتكارية وانتهاك قواعد المنافسة في الاتحاد الأوروبي، وحكم عليها بثلاث غرامات في غضون عامين تزيد على 10 مليارات دولار.

لكن الواقع أن هذه الدعوى الأسبوع الماضي، وبعد نحو عام من التحقيقات والتحريات، أقرب لما حدث مع عملاق تكنولوجيا آخر هو شركة مايكروسوفت في تسعينات القرن الماضي في الدعوى التي أقامها ضدها الاتحاد الأوروبي مطالباً بتفكيكها، وتحديداً فصل برنامجها التشغيلي «ويندوز» عن برنامج تصفح الإنترنت «اكسبلورر». وتفادت مايكروسوفت وقتها التفكيك بالتوصل إلى تسوية خارج المحكمة مع الاتحاد الأوروبي، مقابل دفع مبالغ طائلة. أما الدعوى على «جوجل» هذه المرة، فقد لا تنتهي بتسوية، أو مجرد دفع غرامة، خاصة إذا انضم مدعون عامون في ولايات أمريكية مختلفة للدعوى التي رفعتها وزارة العدل واتساع نطاق القضية.

ويُجري الادعاء العام في عدة ولايات  إلى جانب محققين فيدراليين  تحريات وتحقيقات بشأن ممارسات «جوجل»؛ بل إن محققين فيدراليين من ولايات مختلفة، يقومون بتحريات ليس فقط بشأن «جوجل»؛ بل حول شركات التكنولوجيا الكبرى الأخرى مثل «أمازون» و«فيسبوك» و«أبل» وغيرها. وتتحدث بعض وسائل الإعلام الأمريكية عن أن قضية جديدة على «فيسبوك» قد يتم رفعها في نوفمبر القادم. وتختلف دعاوى ممارسة الاحتكار وانتهاك قواعد المنافسة الحرة عن الاتهامات السياسية لشركات الإنترنت الكبرى، بأنها تضع خوارزميات البحث مثلاً بطريقة تحابي هذا الطرف السياسي أو ذاك، فتلك الاتهامات مهما كانت قوتها يمكن أن تؤدي فقط إلى وضع قواعد تنظم عمل شركات التكنولوجيا الكبرى ولكن لا تنال كثيراً من هيمنتها وسطوتها وتسيّدها في الفضاء العام.

لقد أظهرت أزمة وباء كورونا أهمية شركات التكنولوجيا والإنترنت الكبرى، ولا شك في أن العالم ما بعد كورونا سيظل يعتمد عليها بكثافة أكبر مع تغير نمط حياة البشر، وتوسع استخدام الإنترنت وتكنولوجيا الاتصال. ويترجم ذلك إلى زيادة نصيب كبريات شركات التكنولوجيا من عائدات بمئات المليارات، سواء من أرباح التجارة الإلكترونية أو الإعلانات الرقمية أو المعلومات والترفيه عبر الإنترنت باشتراك. والأرجح أن السلطات في أمريكا وأوروبا وغيرها، تدرك مدى هيمنة تلك الشركات قبل وباء كورونا، لكن أزمة الوباء فرضت واقعاً جديداً زاد من قدرات تلك الشركات لتتجاوز ما كان يشار إليه دوماً بأنها «الكبريات المتحكمات»، سواء شركات تصنيع السلاح أو شركات الأدوية؛ لذا يتوقع أن تشهد الفترة المقبلة مزيداً من المشاكل التي تواجهها «كبريات التكنولوجيا».

بالطبع لا يمكن الجدال في حاجة هذا القطاع إلى مزيد من الضبط والتنظيم عبر تشريعات وقواعد وإجراءات تواكب الدور الهائل الذي أصبحت تلعبه الشركات، ليس في الاقتصاد العالمي فحسب؛ بل في تشكيل الرأي العام وتوجيه المعرفة والثقافة أيضاً، لكن لا يمكن الجزم بأن منحى لجوء السلطات للقضاء لتحجيم نفوذ كبريات التكنولوجيا والإنترنت هو الطريق الأمثل على المدى الطويل. فالنيل من الكبريات لن يضبط عمل القطاع ودوره في الاقتصاد والمجتمعات، وإنما فقط سيفتح الباب أمام ملء الفراغ بلاعبين أقل حجماً، لكن ربما أقل جودة أيضاً.

نعم، لا يمكن الآن، خاصة بعد ما برز خلال أزمة وباء كورونا، ترك قطاع التكنولوجيا والإنترنت «ينظم نفسه بنفسه»، ويتمتع بميزات ليست لغيره من حرية خارج القوانين والقواعد الموضوعة من قبل، وإنما في الوقت نفسه قد لا يكون من الصحيح تماماً، تطبيق تلك القواعد والقوانين السابقة على القطاع في محاولة لضبطه. فوضع كبريات التكنولوجيا أصبح يتجاوز القانون التقليدي وقواعد الاقتصاد التقليدية، ويؤثر في المجتمعات بشكل يتجاوز الاقتصاد والسياسة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"