عادي

الكتب القديمة..جامعة الفقراء

23:50 مساء
قراءة 6 دقائق
معرض الشارقة للكتاب

القاهرة: محمد زكي

بدأت الطباعة في مصر في القرن التاسع عشر، وكانت مطبعة بولاق – أول مطبعة مصرية – تطبع ألف نسخة من الكتاب، إذا كان على نفقة المؤسسة الرسمية، وإذا كان على نفقة ناشر غير رسمي، يطبع منه 500 نسخة، وبعد رحيل محمد علي أهملت المطبعة، فأثر ذلك في سوق النشر وطباعة الكتب، إلى أن شهد القرن العشرون، طفرة كبيرة في مجالات الطباعة.

كان الكتاب القديم طوال الوقت يكتسب قيمته من ندرته، إضافة إلى محتواه، فكانت هناك نسخ محدودة من بعض الكتب، مثل كتاب «مساجد مصر» الصادر عن وزارة الأوقاف المصرية سنة 1948، وكذلك «تاريخ مطبعة بولاق» الصادر عن مطبعة بولاق سنة 1953 فلم يطبع منه سوى 350 نسخة.

ويشير تاريخ الطباعة والنشر إلى مسارين في الثقافة المصرية: الاتجاه الرسمي، يقابله الاتجاه الشعبي، وتلك صورة من صور تداول الكتاب، فأنت أمام أحد أمرين، إما أن تذهب إلى «دار الكتب والوثائق القومية» لتعرف تاريخ كل قصاصة وورقة وكتاب، منذ أن دارت تروس أول مطبعة في مصر، وإما أن تذهب إلى الشارع بفضاءاته، التي تتسع لكل شيء: كتب الطبخ والتجميل والطب والفن والأدب والعلوم المختلفة، وفي هذا ستبحث عن الطريق إلى «سور الأزبكية».

احتفالية

في شهر أغسطس الماضي احتفلت دار الكتب والوثائق المصرية بمرور 150 عاماً على إنشائها، حيث تأسست بمبادرة من علي باشا مبارك سنة 1870 وتضم ما يقرب من 57 ألف مخطوط، تتراوح بين البرديات والمخطوطات الأثرية والوثائق الرسمية، وتعد هذه المجموعات من النوادر، وهي مرقمة ومفهرسة، وتغطي عدداً كبيراً ومتنوعاً من الموضوعات، والدار أكبر مكتبة في مصر، وكانت تعرف ب«الكتب خانة» وتأسست من أجل: «تجميع المخطوطات النفيسة، مما حبسه السلاطين والأمراء والعلماء والمؤلفون، على المساجد والأضرحة ومعاهد العلم».

من ناحية أخرى لم يعد «سور الأزبكية» موجوداً في قلب العاصمة المصرية، بالقرب من المسرح القومي، ضمن منطقة العتبة بوسط القاهرة فحسب، بل أصبح «السور» فكرة، وعلامة على كل رصيف، يحتفي ببيع الكتب القديمة، بسعر زهيد.

في أية بقعة ترى فيها بائعاً جوالاً، يفترش الأرض، وحوله عشرات أو مئات الكتب القديمة، ستكون أمام «سور الأزبكية» حتى لو كانت هذه المساحة في الإسكندرية، وفي شارع النبي دانيال، المعروف ببيع الكتب والأشياء القديمة، فالسور حالياً، بعد رحلة طويلة، توزعت أشلاؤه ما بين العتبة، والسيدة زينب، وأسوار جامعة القاهرة، وبالقرب من دار القضاء العالي.

تبدلت الأماكن، لكن الاسم ظل كما هو «سور الأزبكية» قبلة الباحثين عن كتاب جيد بسعر زهيد، سواء كانوا طلاباً في المدارس والجامعات، أم مثقفين وكتاباً معروفين، تربت ذائقتهم الأدبية هنا، وفي هذا يتشابه «السور» مع شارع «المتنبي» في العراق وهو من أشهر الشوارع، التي تبيع الكتب القديمة في العالم العربي، ويمتد بطول كيلومتر، ويقع في قلب بغداد، وعلى رأسه تمثال للشاعر أبي الطيب المتنبي، وفي نهايته قوس كتب عليه بيت شعر شهير للمتنبي. 

بينما في تونس هناك «نهج الدباغين» أشهر مكان لبيع الكتب في العاصمة، ويعود أصل تسمية الشارع إلى قربه من سوق دبغ الجلود، الذي تحوّل إلى مكان للسكن، ثم بعد استقلال تونس تحول إلى مكان لبيع الكتب القديمة، حيث يحتوي على آلاف العناوين القديمة والحديثة في مختلف التخصصات.

وفي المغرب يوجد عشرات من أسواق بيع الكتاب القديم، في فاس، ومراكش، والرباط، وفي هذه الأسواق تباع الكتب القديمة، وأرشيف المجلات النادرة، بأسعار زهيدة.

تقليد 

سور الأزبكية الذي يعد أحد أشهر وأبرز المعارض الدائمة والمفتوحة في العالم، يحمل بداية تاريخية قديمة، ارتبطت برجل اسمه «أحمد عبد الحكيم الكتبجي» ظل لسنوات، يجر عربة محملة بالكتب، في شوارع القاهرة، ليبيع ما لديه، وحين كان يحل به التعب يجلس بجوار السور، فقلده آخرون، حتى بات وجودهم لافتاً للأنظار، بالقرب من المقاهي المنتشرة في تلك المنطقة، وقد اختاروا هذا المكان، لأنه يتيح لهم عرض بضاعتهم على رواد تلك المقاهي. كان موظفو البلدية يطاردون الباعة، ويفتحون خراطيم المياه عليهم، ويتلفون كتبهم، لأنهم يرفضون أن يدفعوا مخالفة إشغال طريق، فما كان من الباعة إلا أن عبروا عن سخطهم - ذات مرة - بطريقة مبتكرة: غمروا الرصيف بالكتب التالفة، تعبيرا عن غضبهم، فانتزعوا حق عرضها، بصورة دائمة على السور.

التقى الباعة مصطفى النحاس، رئيس الوزراء المصري آنذاك، فتعاطف معهم، وأصدر أمره إلى وزير الداخلية، ليمنع تعرض موظفي البلدية للباعة‮، ويكتب - رسمياً – شهادة ميلاد أول سور للكتب في الأزبكية،‮ وبعد قيام ثورة يوليو، ولأن عبدالناصر كان من رواد السور، فقد أمر بتصميم أكشاك خشبية للبائعين، وإصدار تصاريح‮ رسمية لهم، بمزاولة‮ المهنة‮، بشرط ألا يغيروا نشاطهم‮.

 بعد ذلك اتخذت مطاردات البلدية صوراً أخرى، ففي عام 1993 أزالت محافظة القاهرة نحو 34 كشكاً ومكتبة من مكتبات السور، وتم نقله في العام نفسه، إلى منطقة الدراسة، فقام أحفاد «الكتبجي» برفع دعوى قضائية، وصدر لمصلحتهم حكم، يلزم المسؤولين بإعادتهم إلى مكانهم القديم، لكن إنشاءات مترو الأنفاق، وضجيج باعة الملابس والأحذية، حاصرتهم من كل اتجاه، وبات المشهد عشوائياً بامتياز.

أي مهتم بسور الأزبكية لا بد يسأل عن المصدر الذي يرفد السور بالكتب، وهناك حكايات غريبة في ذلك، منها أن معظم تلك الكتب يأتي عن طريق المزادات، أو من المثقفين أنفسهم، أو باعة الروبابيكيا، أو من الخدم في القصور والفيلات والمنازل القديمة، أو اللصوص.

وأشهر ما سرق من المكتبات الخاصة، وبيع في السور، مكتبة علي ماهر رئيس وزراء مصر الأسبق، والزعيم مكرم عبيد، وأحمد لطفي السيد، وأحمد كامل مرسي شيخ السينمائيين، وقد باع الورثة عدة مكتبات، منها مكتبة سلامة موسى، بعد أن رفضت دار الكتب المصرية شراءها.

وهناك مكتبات أخرى كانت تحتوي على مجموعة من الكتب الأجنبية النادرة، ومنها نسخة من كتاب «وصف مصر» المطبوع في فرنسا، والمكون من 36 مجلداً، وقد بيع إلى أحد تجار الكتب بالسور، حيث كان الباحثون يلجأون إلى باعة الكتب بالسور، لتزويدهم بأية وثائق أو مذكرات شخصية، وكان الخدم في القصور الملكية يبيعونها للتجار.

وقد عثر محام على نسخة من مسرحية «أنطون الجميل» رئيس تحرير جريدة «الأهرام» الأسبق، وهي بعنوان «وفاء العرب» طبعتها الأهرام سنة 1909، وعليها إهداء بخطه إلى سعد زغلول، وكانت مجلة «آخر ساعة» قد نشرت مذكرات يوسف صديق، أحد قادة ضباط ثورة يوليو، بعد أن عثر عليها مدرس، في سوق شعبية شهيرة.

في سور الأزبكية يمكنك أن ترى تذكرة ترام تعود لما قبل عام 1900 حين بدأ تشغيل السكة الحديد في القاهرة، أو عقد بيع يعود لسنة 1919 أو ودعوة لحفل زفاف الملك فاروق، على زوجته الثانية الملكة ناريمان.

أهمية خاصة

ويتمتع السور بأهمية خاصة لدى مثقفي مصر والعالم العربي، وربما الأجانب، حتى أن الكاتب الراحل سليمان فياض، كان يطلق عليه «جامعة الفقراء» وتردد عليه الرئيس جمال عبدالناصر، لاقتناء بعض الكتب، وكذلك الرئيس أنور السادات، وبمرور الزمن، أصبح السور منبراً يسهم في تشكيل خلفية المصريين الثقافية، لما يحويه من أمهات الكتب.

وكان من رواده كثير من مشاهير الأدباء والشعراء، منهم على سبيل المثال نجيب محفوظ، والمازني، والعقاد، والمترددون على السور لم يكونوا فقط من الفقراء، لكن الأغنياء كانوا يترددون عليه، بحثاً عن الكتب النادرة، أو الطبعات القديمة، حيث يوجد في السور كتب بكل اللغات، في الطب والفلسفة والأزياء والأدب وفن العمارة.

كان سور الأزبكية يمثل نافذة على الإنتاج الأدبي، في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، لكن الأمر اختلف الآن، فمع الثورة التكنولوجية، فقدت سوق الكتب القديمة أهميتها، إلى حد ما، ووفرت الكتب الإلكترونية على كثيرين، عناء البحث في أرفف المكتبة، أصبحنا في قلب ثورة معرفية، متاحة على آلة صغيرة، تعادل عدة مكتبات، وهو ما يهدد الكتب الجديدة والقديمة معاً.

تغيرت طبيعة مكتبات سور الأزبكية، كما تغيرت نوعية القراء، فأصبحت الكتب الحديثة، والكتاب المدرسي، في مكان بارز، بجوار الكتاب القديم، لكن تظل للكتب القديمة أهميتها، ربما لمجرد الحنين إلى أزمنة سابقة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"