الإسلام بين التنوير والتشويه

00:12 صباحا
قراءة 3 دقائق

كمال بالهادي

لا يختلف اثنان في أنّ معركة التّغيير الحضاري التي انطلقت منذ نحو قرن ونصف في المجتمعات العربيّة، مازالت تراوح مكانها في ما يتعلّق بالمسألة الدّينيّة. بين فريق يريد أن يكون الإسلام دين رقيّ ونهضة وتنوير، وفريق آخر، لا يرى في هذا الدين غير السواد، سواد الملبس وسواد الأفكار، والإسلام منهم براء.

 العمليات الإرهابية الأخيرة التي وقعت في فرنسا والنمسا، تثبت أنّ التطرّف الديني الذي تغذّيه جماعات تنسب نفسها للإسلام، ليس سوى نتيجة طبيعية لخيار غربي انطلق من بريطانيا والولايات المتحدة، راهنوا فيه على أنّ الإسلام السياسي يمكن أن يكون حليفاً في المنطقة العربيّة، ويمكن أن يكون راعياً لمصالحهم، فثبت أنّ هذا الحليف ليس له سوى غاية وحيدة هي تدمير الوطن العربي دولة دولة، ونشر التطرف والإرهاب في كلّ أنحاء العالم.

 قبل 2010، وقبل أحداث ما سمّي الربيع العربي، كانت هناك دول عربيّة قائمة، وكانت لها أجهزة أمنية قوية، عملت على محاصرة الظاهرة الإرهابية وتجفيف منابعها، وقد نجحت في عدّة اختبارات وجعلت العالم في مأمن. غير أن الغربيين الذين لا يريدون السلام لهذه المنطقة، قرروا إسقاط الأنظمة الوطنية، وتعويضها بميليشيات ومرتزقة كانوا إلى حدّ 2001، عناصر إرهابية مطلوبة على المستوى الدّولي. فجاؤوا بها على ظهور الدبابات والدرون والحلف الأطلسي وعلى ظهور الديمقراطيّة ومكّنوها من الحكم تمكيناً. وقلبوا ظهر المجنّ للفكر العربي التنويري، عندما استقبلوا تلك الشخصيات الإرهابية استقبال الزعماء في عقر دار الحداثة الغربيّة. ولم تكن النتائج سوى مصائب تلد مصائب.

 لقد صار جنوب المتوسط لوحة سوداء، بسبب الإسلام السياسي الذي راهن عليه شمال المتوسط. الفقر والبطالة والجهل والتطرف، والهجرة غير الشرعية، وغيرها من الأمراض الاجتماعيّة التي باتت تمثّل مشكلات أمنية على مستوى عالمي وليس على مستوى محلّي أو إقليمي. وهذه الظواهر تزداد تفاقماً، وبدأت شظاياها تصيب دول شمال المتوسط، التي بدأت تراجع حساباتها، في ما يتعلق بعلاقاتها مع حلفاء ربيع الخراب والدمار.

 إنّ هؤلاء لا يمثلون الإسلام ولا قيمه الجوهرية التي تنبذ العنف والكراهية، بل هم يمثّلون فئة معزولة في واقع الأمر عن العمق الثقافي للإسلام بما هو عمق تاريخي وثقافي وقيمي، علمي وأدبي وفنّي. إن المنجزات الحضارية للإسلام التنويري يعرفها علماء الغرب معرفة جيّدة، وسحر الشرق الجمالي والإبداعي يعرفه المبدعون الغربيون، واستلهموا منه في أضخم أعمالهم الفنّية. ذلك هو الإسلام الحقيقي ديناً وحضارة. أمّا تلك الجماعات أو الذئاب المنفردة، فهي ليست سوى صناعة غربيّة، تم توظيفها في معارك جيواستراتيجية بين القوى الدولية.

الغربيون عليهم أن يعيدوا النظر في تواجد آلاف الأشخاص من دعاة الإرهاب الفارّين من دولهم، والحاثين على نشر أفكار التطرف الديني، على أراضيهم وتمتعهم بالحماية وبالتمويل أيضاً الذي يأتيهم من ثغرة الجمعيات الخيرية.

في الدول العربية حيث الأغلبية ترنو إلى العلوم العصرية وإلى المجتمع المدني والدولة الديمقراطية التعددية، نحن ضحايا هذه الجماعات أمنياً واقتصاديّاً، وحتى رمزيّاً. فعندما يتحدّث قادة الغرب عن الإسلام لا يميزون بين إسلام تنويري، وآخر تريده تلك الجماعات الفوضوية. هذا الخلط المتعمّد يشوّه ديننا الحنيف بذات القدر الذي تشوهه العمليات الإرهابية. وهذا لا يمكن قبوله، ولا السكوت عليه، والمطلوب هو تأسيس حوار جديد معمّق بين الشرق والغرب، على أساس ندّي، تكون من بين أهدافه ترسيخ وثيقة الأخوّة الإنسانيّة للتفاهم بين الأديان، وتحميل المسؤولية بكلّ وضوح للأطراف التي تغذّي هذه الجماعات الدينية المتطرّفة. ونحن على يقين أن هذا الحوار المعمّق بين رجالات الفكر وصناع القرار في الشرق والغرب، هو الكفيل بإنهاء الكثير من المشكلات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"